أثناء المناقشات التي سبقت التعديلات الدستورية التي جري إقرارها في عام2007, كان لي رأي في النقاش الدائر حول إشراف القضاء علي الانتخابات حيث كنت من المعارضين لهذا الرأي استنادا إلي حجة قانونية وأخري سياسية. أما الحجة القانونية فقد كانت استنادا إلي التقاليد العالمية التي لا تجعل القضاء باعتباره سلطة منفصلة يتدخل مباشرة في أعمال السلطة التنفيذية بالإشراف المباشر علي الانتخابات بينما هو في الحقيقة لا يقوم بمهمته الأصلية وهي الفصل في صحة العضوية بينما يتم ذلك عن طريق سلطة أخري وهي التشريعية التي باتت سيدة قرارها. كان ذلك مخالفا لكل الأمور التي يعرفها العالم, وتعرفها نظرية الفصل بين السلطات والتوازن بينها حيث تقوم السلطة التنفيذية بمهمة التنفيذ, والتشريعية بوضع القواعد والتشريعات والمراقبة علي تنفيذها, ويقوم القضاء بالحكم فيها إذا ما اختلفت أو تنازعت أطراف. أما الحجة السياسية فكانت أن إشراف القضاء علي الانتخابات سوف يفتح باب جهنم من زاوية تسييس القضاء, وضرب هيبته في مقتل, والخلط بين الأوراق القانونية والسياسية. وكان ذلك ما جري خلال السنوات الماضية حتي بعد أن رفعت يد القضاء عن الإشراف علي كل صندوق انتخابي حيث بات إشراف القضاء قضية سياسية, وصار بعض القضاة زعماء سياسيين, وعرفت السلطة القضائية المظاهرات والوقوف علي سلالم المتظاهرين, وظهر القضاة علي شاشات التليفزيون يحاكمون ويحكمون علي قضايا لم يجر بشأنها تداول, ولا حدث في موضوعها دفاع أو تناول. أيامها تم استبعاد الرأي الذي يقول بضرورة أن ترد كل السلطات إلي أصولها ومنابعها وأدوارها في النظام السياسي. وكان الاستبعاد علي أساس أن الحكم في صحة الطعون لم يأت في طلب الإصلاحات الدستورية, وسارت الأمور كما سارت عليه, ودفعنا جميعا ثمن هذا الخلط والاختلاط خلال الانتخابات الأخيرة حيث ظهر للمواطن غير المتخصص أن اللجنة العليا للانتخابات المنوط بها ضبط العملية الانتخابية لم يكن لديها من الأنياب ما يكفي, بل إنها لم تظهر في الصورة العامة إلا متأخرة في مباراة الانتخابات. ولما كان الفراغ عادة يستدعي من يملؤه فقد دخل القضاء فورا إلي الساحة غير عابئ بوجود اللجنة العليا للانتخابات أو هكذا بدت الصورة في أحوال كثيرة. ولم يكن الخلط واقعا فقط بين اللجنة العليا للانتخابات والسلطة القضائية كلها, بل إن الأمر كان خلطا داخل السلطة القضائية ذاتها عندما لم تكن معلومة علي وجه التحديد الجهة التي تفصل في الطعون المختلفة وعما إذا كانت هي محكمة القضاء الإداري أو محكمة النقض ومن عجب أن كليهما أصدر أحكاما بلبلت عقول المواطنين غير المتخصصين في دروب العدالة. إثارة هذا الموضوع الآن من الضرورات لأن ما جري خلال الانتخابات الأخيرة لا ينبغي له أن يتكرر ثانية; فلا يجوز في بلد مثل مصر أن تمر انتخابات دون ذلك الخلاف التاريخي حول تزييف الانتخابات ونزاهتها. ولكن للمسألة وجها آخر, وهو سياسي هذه المرة حيث يبدو مجلس الشعب معرضا لخلل في الموازين بين أغلبية كاسحة وأقلية كسيحة من المستقلين وأحزاب المعارضة. إصلاح الأمر الأول سوف يحتاج نقاشا واسعا سوف يمس جوانب دستورية وأخري قانونية وثالثة سياسية ترتبط بالنظام الانتخابي كله الذي لم يعد هناك بد من تحويله إلي نظام القائمة المفتوحة التي تتيح للناخب الانتخاب لأفراد في قوائم مختلفة. ولكن تفاصيل ذلك ليست موضوعنا الآن, وربما سوف يحتاج الفصل التشريعي كله حتي نصل إلي توافق قومي حوله. ولكن ما نحتاجه الآن هو أولا أن تبقي أغلبية الحزب الوطني الديمقراطي علي حالها, بمعني وهذا قرار سياسي أنه لا يوجد معني لضم مستقلين إلي الحزب ليس فقط لأنهم خاضوا الانتخابات ضد الحزب, ولكن لأن الحزب لديه من الأغلبية ما يكفي وزيادة لتمرير سياساته, ولا يحتاج أعضاء جددا يريدون سلطة الحزب أكثر من مبادئه وتنظيماته. وثانيا أن يتم حل مسألة الطعون بطريقة منظمة ونظيفة ودون تدخل من مجلس الشعب, وهذه أيضا مسألة سياسية وليست قانونية. بمعني أن مجلس الشعب سوف يختار طوعا, تحت القيادة الرشيدة للحزب الوطني الديمقراطي ألا يكون سيد قراره وأن يكون الحكم في المسألة كلها للقضاء. أي قضاء النقض أو الإدارية العليا, فهذه مسألة سوف أتركها للمتخصصين. هذه مسألة لا تشكل تعديلا دستوريا, ولا تخل من القوانين القائمة, ولا تتدخل في النقاش القانوني الدائر عما إذا كان المجلس سيد قراره في كل الأمور, أم أنه سيد قراره فقط بعد أن يصير العضو عضوا في المجلس, أما إذا كان قد تعرض لأحكام قضائية قبل ذلك فمن الواجب علي المشرع أن يعترف بهذه الأحكام وينفذها. والرأي عندنا سياسيا هو أن ينفذ المجلس الأحكام الخاصة ببطلان العضوية أو نجاح مرشح بدلا من مرشح آخر, أي يعطي طوعا للسلطة القضائية أن تقوم بواجبها في الفصل في المنازعات حتي يأتي اليوم الذي يكون لدينا فيه دستور واضح لا يوجد فيه لبس ولا يجري فيه التباس. أعلم أن الدستور قد أعطي البرلمان سلطات في هذا الشأن إذ تقضي المادة(93) بأن يختص المجلس بالفصل في صحة عضوية أعضائه وتختص محكمة النقض بالتحقيق في صحة الطعون المقدمة إلي المجلس بعد إحالتها إليها من رئيسه وتجب إحالة الطعن إلي محكمة النقض خلال خمسة عشر يوما من تاريخ علم المجلس به, ويجب الانتهاء من التحقيق خلال تسعين يوما من تاريخ إحالته إلي محكمة النقض, وتعرض نتيجة التحقيق والرأي الذي انتهت إليه المحكمة علي المجلس للفصل في صحة الطعن خلال ستين يوما من تاريخ عرض نتيجة التحقيق علي المجلس. ولا تعتبر العضوية باطلة إلا بقرار يصدر بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس. أما المادة(96) فتنص علي أنه لا يجوز إسقاط عضوية أحد أعضاء المجلس إلا إذا فقد الثقة والاعتبار أو فقد أحد شروط العضوية أو صفة العامل أو الفلاح التي انتخب علي أساسها أو أخل بواجبات عضويته ويجب أن يصدر قرار إسقاط العضوية من المجلس بأغلبية ثلثي أعضائه. فيما تقضي المادة(97) بأن مجلس الشعب هو الذي يقبل استقالة أعضائه. فضلا عن ذلك, فإن ثمة عددا من المهام والصلاحيات التي يقوم بها مجلس الشعب والتي تضمن استقلاله عن السلطات الأخري وتتمثل في: تفرد المجلس في مجازاة نوابه, والفصل في الطعون الانتخابية, وقبول استقالة أعضائه, وأداء اليمين, والتحقيق في صحة عضوية أعضائه, وتفرده في وضع وإقرار الموازنة السنوية الخاصة به وحسابها الختامي, فضلا عن اللائحة الداخلية التي تنظم أعماله, والحصانة الدبلوماسية التي يتمتع بها أعضاؤه. لكن في مقابل ذلك, فإن ثمة فريقا من القانونيين والسياسيين يرون أن مجلس الشعب برفضه تنفيذ أحكام القضاء الخاصة بالطعون يكون قد أخل بمبدأ الفصل بين السلطات وليس العكس, لأنه يعتدي علي صلاحيات السلطات الأخري ولا يحترمها, بل إن البعض يتجاوز ذلك ليؤكد أن المجلس يستغل حالة الغموض التي تتسم بها المادة(93) المذكورة من أجل عدم تنفيذ الأحكام القضائية الخاصة بالطعون. ويشير إلي أن الصلاحيات التي يمتلكها مجلس الشعب تنحصر في الفصل في صحة عضوية نوابه, وليس البت في النزاعات المرتبطة بشروط صحة العضوية. هذا النزاع في الاجتهاد القانوني ليس موضع بحثنا, ولكن ما يهمنا من قبل أو من بعد هو الجانب السياسي للمسألة حيث نجم عن التطبيقات المختلفة للدستور حجم هائل من الطعون لا تهمنا سلامته القانونية بقدر تأثيره السياسي علي النظام العام كله. فتعتبر ظاهرة الطعون الانتخابية من أهم الظواهر التي شهدتها انتخابات مجلس الشعب الأخيرة. حيث وصل العدد الإجمالي للطعون الانتخابية في صحة عضوية النواب الفائزين بالانتخابات إلي1150 طعنا. وقد بلغ عدد الطعون في انتخابات الجولة الأولي والتي أحالتها أمانة مجلس الشعب إلي محكمة النقض288 طعنا انتخابيا, كان اللافت فيها أن من بينها110 طعون قدمها مرشحون للحزب الوطني ضد نواب من الحزب نفسه فازوا في الانتخابات, و178 طعنا قدمت من جانب المرشحين المستقلين, من دون جماعة الإخوان المسلمين المحظورة التي لم يتقدم مرشحوها في الانتخابات بأي طعن في النتيجة. وعلي ضوء ذلك, تكون ظاهرة الطعون الانتخابية قد حققت رقما قياسيا في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة بالمقارنة بالانتخابات الماضية. فعلي سبيل المثال, وصل عدد الطعون التي قدمت في صحة عضوية عدد من النواب الفائزين في انتخابات عام2005 إلي482 طعنا, فيما وصل عدد الطعون علي انتخابات مجلس الشعب2005 التي تلقتها محكمة النقض حتي يوم4 مارس2006 إلي8201 طعن. ولكن الثابت أن عدد النواب الذين صدرت بحقهم تقارير من محكمة النقض تقضي ببطلان فوزهم, بلغوا77 عضوا من بينهم58 ينتمون إلي الحزب الوطني, و15 لجماعة الإخوان المسلمين, و2 لحزب الوفد, و2 من المستقلين. وهنا يلاحظ أنه رغم العدد الكبير من الطعون فإن من صدر بحقهم وهم من أحزاب وجماعات مختلفة حكم لم يزيدوا علي17% من عدد الأعضاء وهو ما يعطي صورة عن الحجم الهائل من المبالغة في الحديث عن التزوير في الانتخابات. المسألة هنا في الانتخابات الأخيرة قد تكون أكثر تعقيدا مما جري في الانتخابات السابقة حيث صدرت أحكام من محاكم مختلفة بالبطلان والتأجيل, كما خرجت الكثير من الفتاوي القانونية. كل ذلك له انعكاساته التي تؤثر علي العلاقة بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية: أنها تمس مبدأ الفصل بين السلطات في الصميم, حيث تفرض رأي السلطة القضائية علي رأي السلطة التشريعية, كما أنها تصادر صلاحيات الأخيرة في البت في صحة عضوية أعضائها, وهو الأمر الذي ينص عليه الدستور كما أشرنا. ولكن الأمر في الأول والآخر يخص السياسة كما يخص القانون, وواجب التوفيق بينهما يحتاج عددا من الرؤوس الباردة التي تبدأ من الهدف السياسي وهو تحقيق الاستقرار أولا, ثم ثانيا تصحيح الاختلال داخل مجلس الشعب التنازل الطوعي عن سيد قراره وتطبيق أحكام المحاكم, ثم ثالثا أن يطلب الحزب الوطني الديمقراطي من أعضائه المقدمين للطعون سحبها التزاما بسعي الحزب لتحقيق التوازن المرغوب داخل المجلس حتي يستمر التحالف المدني ولا يتم إهداؤه طوعا لمن لا يريدون للبلاد خيرا. [email protected]