أطلق الدكتور فاروق الباز صرخة مدوية فى جامعة القاهرة الأسبوع الماضى تحذر من ضياع ثروتنا الزراعية بتأثير جنون البناء عليها، فى جريمة كاملة الأركان نرتكبها بحمق شديد فى حق الأجيال المقبلة، وجاءت تحذيرات العالم المصرى الجليل، صادمة جدا إذ قال بالحرف الواحد: إن مصر تفقد 3 آلاف فدان فى العام بسبب الزحف العمراني على الأراضي الزراعية، وإنه إذا استمر الوضع هكذا فإنه بعد مرور 183 عامًا من المتوقع اختفاء الأراضي الزراعية، ومش "هنلاقي قيراط نزرع فيه وهنموت من الجوع". هذا التحذير ليس به أدنى مبالغة من واقع معايشتي اليومية، إذ تلاحظ زحف أعمدة الخرسانة لتلتهم ما تبقى من التربة الخصبة التى طالما كانت بمثابة سلة الغذاء للمصريين ومن حولهم عبر قرون عديدة، خصوصا أن حضارة مصر القديمة قامت على ضفاف النيل، وكانت مصر تصنف حتى وقت قريب بأنها بلد زراعى، لكن إذا لم تتحرك أجهزة الدولة لوقف كل مظاهر الاعتداء على التربة الزراعية فإن نبوءة د. الباز ستكون واقعا مريرا يجعل الأجيال المقبلة تصب علينا اللعنات. خبرتى مع قريتى الصغيرة - ميت العطار - مركز بنها تجعلنى أخشى أن تختفى الأرض الزراعية فى بر مصر قبل التاريخ الذى حدده العالم الجليل، فقد تضاعفت الكتلة السكنية فى القرية خلال عمرى القصير - 46 عاما - بأكثر من ثلاثة أمثال وزرعت أحواض زراعية بالكامل بغابات الأسمنت السوداء، ولم يعد يخلو حوض زراعى من الغزو الخرسانى، يستوى فى ذلك ما كان يعرف بداير الناحية أو الأراضى البعيدة عن العمران، بل إن البناء وحد بين القرى وجعل بيوتها تتلاصق، وسواء أخذ البناء شكل مزارع لتربية الدواجن أو منازل لمواجهة الزيادة الطبيعية فى عدد السكان، فالنتيجة المؤكدة مآس وكوارث اجتماعية عميقة، أبسطها أن القرية التى كانت تصدر منتجاتها الزراعية والحيوانية إلى المدينة باتت تنتظر الرغيف الحكومى مع كل طلعة شمس، رغم أنه قبل 30عاما فقط كان من يشترى خبزا من المدينة يهربه فى طيات ملابسه وكأنه ممنوعات، أيضا انتهت ثقافة القرية المنتجة وأصبحت عالة على المدينة. وما حدث فى قريتى حدث فى غيرها، فأينما وليت وجهك، طاردتك كتل الأسمنت التى تنشر القبح وتشكل عدوانا صارخا على التربة الزراعية وحق الأجيال المقبلة فى الاستمتاع بخيراتها. والمؤسف أن الحكومات المتعاقبة ليست بعيدة عن الأزمة، فكلما شرعت فى اتخاذ إجراءات لتقنين البناء كلما جاءت النتائج عكسية، وأستطيع أن أقول إنه حتى أواخر سبعينيات القرن الماضى، كان للأرض الزراعية احترامها وقدسيتها، وكانت المكانة الاجتماعية تقاس بمقدار ما يملك الرجل من أطيان، لكن مع بدعة استخراج تصاريح البناء، انطلق المارد من القمقم، وفقا لنظرية الممنوع مرغوب، وتسابق الكل على قضم التربة الخصبة وتبويرها عمدا لبناء منزل مسلح، وساعد على ذلك فساد الجهاز الإدارى للدولة وتفشى الرشى، وانعدام الرقابة، وظاهرة السفر لدول الخليج والعراق والأردن وليبيا، مما ضخ مليارات الجنيهات وشجعت أصحابها على البناء. والتساؤل الآن: ماذا نحن فاعلون مع صرخة د. الباز؟ أعتقد أن الأمر يحتاج لأكثر من مطالبة البرلمان الجديد بتبنى قوانين صارمة تجرم البناء على الأراضى الزراعية، أو تعلية أدوار المنزل الواحد. إن آفة هذا البلد ليس فى نقص القوانين بل فى كثرتها فهى تشبه الترسانة من الأسلحة لكنها فاسدة، وتتضمن ثغرات ينفذ منها المخربون والفاسدون والمرتشون، وما أكثر القوانين التى تجرم البناء على الأراضى الزراعية لكنها لم تمنع الكارثة التى تحدق بنا وبالأجيال المقبلة، إننى لا أتحمس لسن قوانين، بقدر تقديم محفزات لأصحاب الأراضى الزراعية تعيد لهم الاعتبار وتجعلهم مجبرين على الحفاظ عليها، لأننى أخشى أن يأتى اليوم الذى تتوافر فيه الأموال ولا يتوافر قيراط الأرض مما قد يجعله عملة نادرة. ولا يفوتنى أن أترحم على الأيام الخوالى التى كان لدينا محصول القطن يشكل عصب الاقتصاد للفلاح ولصناعة الغزل والنسيج والذى صار الآن نسيا منسيا وعبئا على زراعه.