ليس في وسع المراقب للأزمات والمشكلات العاصفة التي تلم بعالمنا العربي, إلا أن يتساءل: هل نملك فعليا مشروعا للتنمية الثقافية يمكن التعويل عليه من أجل تغيير يعود علي المجتمع إيجابيا؟ أعتقد أن هذا السؤال صعب جدا لأن هناك من سيقول نعم لدينا مشروع للتنمية الثقافية,وهناك من سيعترض, فالجميع محق من الزاوية التي يري منها فكرة التنمية الثقافية في المجتمع ومدلولاتها الخاصة ولكن لابد من الاعتراف بوجود زوايا خاطئة يجب علاجها. في البداية قال الدكتور مدحت الجيار أستاذ الأدب العربي بجامعة الزقازيق إنه قبل أكثر من ثلاثة عقود مضت كان لدينا شبه مشروع للتنمية الثقافية, كان سيثمر لو ترك في حال سبيله دون إيقاف, فلقد كان المجتمع في ذلك الزمن, تتمدد أغصانه نحو كل اتجاه في مكونات الثقافة المجتمعية, ولكنه تعرض للقصف من تنمية فكرية أخري أنتجت مجتمعا مختلفا في طباعه وقيمه مرتبكا في تقديراته للحياة متشنجا في بعض ممارساته. وأضاف أن التنمية الوحيدة التي نجحت نجاحا سلبيا, في المجتمع خلال العقود الماضية, هي مشروع الصحوة الإسلامية, حيث غير هذا المشروع كل قيم المجتمع نحو قيم مرتبكة في ترتيبها وأولوياتها, لأنها كانت مشروعا يعمل فقط في مربع محدد من الثقافة المجتمعية, هذا المربع يمكن تسميته( مربع التشدد) حتي أصبح الفرد في المجتمع غير قادر علي تمييز الكثير من المسارات الصحيحة والخاطئة, وقد عاش المجتمع كله, ورغما عنه في مربع الصحوة فقط, ولم يكن لديه الكثير من الفرص لتجربة المربعات الأخري في الثقافة المجتمعية. ومن جانبه قال الشاعر ناجي شعيب إن مرحلة السبعينيات أنتجت تنمية فكرية جعلت الفرد امام متناقضات فكرية كبري سوف أسرد بعضها للتذكير, ولكن قبل ذلك يجب علينا أن نسأل سؤالا قاسيا يقول: ما الذي جنته فكرة دينية( كالصحوة) من جعل المجتمع الديني بطبعه أكثر تشددا في ممارساته الدينية...؟ وأوضح قائلا: لم يكن أحد ليفكر بهذا السؤال لأن التخمة في هذا النوع من الفكر تشبه الكثير من الأمثلة علي الحياة, ولكن للتبسيط يمكننا فهم هذه الفلسفة من خلال هذا السؤال الذي يقول: ما الذي يمكن أن يجنيه جسد لديه زيادة في الوزن من زيادة الأكل أكثر من المطلوب...؟ هكذا وبكل بساطة- والكلام للشاعر ناجي شعيب- ما عملته الصحوة في المجتمعات الإسلامية, تخمة فكرية أنتجت تطرفا يصعب التحكم في معطياته, بل أصبحت السيطرة عليه تحتاج إلي عمليات فكرية أكثر تعقيدا, فالفرد في مجتمعاتنا وبفعل تأثير الصحوة ومنهجها الفكري الذي كان يعاني من تبسيط شديد لواقع المجتمع, أنتجت فردا ومجتمعا يعيش في مربع واحد هو مربع الثواب والعقاب, فأصبحت أعمال الفرد وكذلك المجتمع تقاس من خلال هذا المفهوم فعلي سبيل المثال أصبح للتدين مكملات شخصية فتحول الإيمان من فكرة النية الخالصة إلي فكرة المظهرية البارزة, بمعني دقيق أصبح المظهر الديني أهم من القضية الأساسية في الدين وهي النية الخالصة للعمل الديني وهذه أول مظاهر ارتباك المجتمع. وقال الدكتور حسن يوسف أستاذ الفلسفة إن المثال الآخر في مربع الصحوة, هو قضية الأزمة بين الوطنية المحلية والأممية الفكرية, هذه الأزمة من مخلوقات الصحوة التي أربكت كل فرد في العالم الإسلامي حيث يطرح الجميع سؤالا مباشرا حول أهمية الوطن في مقابل الأمة..؟ وهذا من مناهج الصحوة الخطيرة كونها لم تعرف ولم تفصل بين الأممية الدينية( الإخوة في الدين الواحد) في مقابل الأممية السياسية( الخلافة) وليس هناك شك في أن مشروع الصحوة كما مشروع الإرهاب يتبني بشكل دقيق مشروع الخلافة الداعشية. ومضي قائلا: ولأننا نعاني فعليا من تخمة فكرية وثقافية ساهمت تلك الصحوة في تكريسها وتعزيزها, فإن ذلك جعلنا أكثر قابلية لمشروعات التسمين الصحوي, وهذا ما يجعلنا مرغمين علي ضرورة البحث عن إجابة عميقة للسؤال المهم الذي يقول: لماذا يسهل التأثير علي فئة من أفراد المجتمع للانضمام إلي قوافل الإرهاب والانحراف؟ أما الفنان التشكيلي صلاح عناني فأكد أن الذين يروجون للأسباب السياسية أو الاجتماعية وأنها تقف مباشرة خلف هذا الانحراف, هم فئتان فئة لا تدرك الحقيقة الثقافية بكاملها, وفئة تدرك الحقيقة ولكن لديها أهداف مرتبطة بصناعة الأممية السياسية, وهؤلاء يمثلهم المتربصون بالأفراد من المجتمع والذين يدعونهم إلي مواقع الأزمات وساحات القتال. وأوضح أن الأزمة التي نعاني منها حقيقة هي التوازن الثقافي بين مدلولات الحياة, ومقادير التعاطي مع كل مدلول في هذه الحياة, بمعني أدق تشكل الحياة متطلباتها وفقا لطبيعة العيش فيها فلا يوجد منهج أو مسار لديه, كل الحلول للحياة وإلا لما كان هناك تفاوت في طبيعة البشر وطرق عيشهم, والذي يعتقد أن هناك منهجا واحدا يمكن أن يمتلك جميع الحلول لمشكلات الحياة, فيجب أن يراجع نفسه لأن الأوائل أولي بأن يكتشفوا هذا المنهج ويريحوا البشرية من عناء التفكير والبحث والتعلم. وأضاف أن الجميع مسئول: فالثقافة المجتمعية إذا لم يتم منحها بتوازن بين معطيات الحياة, فإنها تخلق الكثير من المشكلات لعل من اقلها التطرف والانحراف, والسبب العلمي والمنهجي لوجود الانحراف يتمثل في قصور الرؤية الكاملة لطبيعة الحياة وتنوعها, فالإنسان الذي يعيش في الغابة مع الحيوانات لن يعرف سوي طباعها وشراستها وصراعها من اجل الحياة, وهكذا هي الثقافات فمنها منفتح علي العالم, متوازن بين قدراته وإمكاناته, ومنها مغلق عن العالم لا يري سوي صورة واحدة في الحياة. وأكد الدكتور حسن يوسف أستاذ الفلسفة بأكاديمية الفنون أن هناك مسئولية مشتركة بين كل مكونات المجتمع لعلاج الإرهاب والتطرف, مشيرا إلي أن التوازن الثقافي لا يصنعه مجتمع متشدد ولا مجتمع منحرف ولا مجتمع مغلق ولا مجتمع منفتح.. وأعتبر أن التوازن الثقافي بحاجة إلي وصفة سياسية اجتماعية تضع مقادير الثقافة بشكل متوازن وفقا لمكونات المجتمع, بحيث لا يتم فرض رؤي محددة علي الجميع لأن كل فرد وكل جماعة محلية وكل ثقافة فرعية لها إمكانات مختلفة عن غيرها, وهذا تعلمنا إياه الطبيعة الجغرافية قبل الثقافية فسكان الجبال مختلفون تماما عن سكان السهل والبحر. أما مشروع التنمية الثقافية, فذلك هو السؤال الصعب الذي يبدأ من التنكر أولا وقبل كل شيء للمركزية الثقافية والفكرية, وهذا يعني أن نمنح الثقافات الفرعية في المجتمع الفرصة للعودة إلي الحياة من جديد للتعبير عن نفسها, فهناك حقيقة مهمة تسهل علينا هذا الفعل فنحن مهما تنوعت ثقافاتنا الفرعية إلا أننا في مجتمعاتنا نشترك بقيم أصيلة يمكنها أن تكون الميزان الحقيقي لهذه الثقافة, فكل الثقافات العامة والفرعية في تكويننا الاجتماعي, تؤمن بلا شك بأن أركان الإسلام خمسة ليس أكثر, ومن هنا يجب أن نتحرك ضد كل التخريجات الكاذبة التي تخدع شباب الأمة باسم الدين.