لم يعد يزورني أحد.. كأن أمسياتنا الجميلة.. لم تكن!.. كنت اجوس الطرقات بحثا عنهم.. الرفاق تائهون في شوارع وسط البلد, شارع عدلي.. ناصية الامريكين.. شارع سليمان باشا.. نجلس معا في حديقة جروبي المختبئة وسط البنايات. بين الازهار النابتة حولنا.. والشمس المسلطة.. من سماء ندية. تربت بأشعتها علي اكتافنا.. ونحن نحتسي فناجين الشاي, المتصاعد بخاره الابيض.. مع انفاس الشتاء.. فندلك اصابعنا في معاطفنا القطنية, ونسرد اخبارنا واخر حكاياتنا, وتجلجل ضحكاتنا, عندما يقص عمر نوادره, عن مديره ذي الوجه المفلطح, والانف الغليظ.. واذنيه اللتين تحمران عندما يغضب.. فنضحك, غير عابئين بمن حولنا ولا بالمارة ولابالباعة المؤطرين ارصفة الشوارع. ينادون علي بضاعتهم في ضجر, ويزعقون بلا سبب.. الشتاء خيمة. ونحن هاربون في صبح يسعي لعناق المساء, أتدفأ في صحبة الرفاق.. ويختتم الجلسة عماد غزالي بآخر قصائده التي يود نشرها في مجلة ابداع ويتحفنا كعادته بمشاعره الفياضة وصوره المتجددة.. فنشرع في نقدها ومناقشاتها.. فتنتاب الغيرة صديقنا سمير صفوان فيقرأ علينا احدي قصصه القصيرة التي تحكي عن الوحدة في اروقة المدينة.. وان شتاء المدينة..مظلم.. بارد موحش وان القرية مازالت مهبط الحالمين ببدائية الانسان ونقائه الفطري, دون تكلف. دون مغالاة.. دون التسكع علي طرقات الغربة.. امام فاترينات الاحلام المخفية.. والامنيات المؤجلة.. والبدايات المرفوعة بأوناش الواقع المر..من رفوف ذاكرة الحلم البعيد.... وافترقنا علي وعد بلقاء.. في مكان وموعد, نتفق عليه فيما بعد. سنوات مضت علي رحيلي من قريتي النائمة في حضن الجبل.. اشارك صديقا لي غرفة صغيرة, بأسطح احدي البنايات القديمة... نعمل معا في نفس الجريدة, هي نفس الغرفة التي شهدت انهاء سنوات دراستي في كلية الاداب, شهدت انكساراتي ونجاحاتي.. وسهر الليالي, انقب في الكتب والمراجع.. اكتب المقالات والبحوث, سعيا وراء تثبيت دعائمي في الجريدة...ان يصبح لك اسما..عمل شاق وطويل ينتظرك. هكذا قالها لي الاستاذ سعفان مساعد مدير التحرير. ثم اردف بعد مشوار مضن. قد يستنزف عمرك كله. قد تصنع اسما مرموقا يضعك في مصاف الكبار. وقد تظل منسيا في زمرة المجهولين.. ومااكثرهم! لن اظل مجهولا.. كفاني ولدت مجهولا من ابوين منسيين, في قرية مجهولة تركتها سعيا لنور, في مدينة الحلم والدخان..... فما اكثر دروبك وشعابك يامدينة الموتي.. لن تهزمني القاهرة..... ورددتها بأعلي صوتي, وانا امر بجانب التمثال, القابع وسط ميدان الاوبرا, مما استرعي انتباه المارة من حولي, وسمعت احدهم يعلق, متوجسا: مجنون.. مااكثر المخبولين في البلد الان فابتسمت.. وانتويت أن أقص ماحدث, لصديقيصفوانعله يضمنها احدي قصصه القادمة. لم اكن اعلم مقدار حبهم لي الا بعد تلك الحادثة حادثة سير ليلي لعربة طائشة اقتلعتني من الاسفلت وانا اعبر شارع قصر النيل! التي افضت لموتي, فأول تجمع لهم بمقهي البستان, طفرت الدموع من عين صفوان وكسا الاسي وجه سمير, وندد عماد بالموت الذي يخطف اعز الاحباب, دون تمهيد, دون حتي بيان قصير يوضح وجهة النظر! لم يعد اصدقائي كما كانوا.. لم يعتادوا الضحك بدوني.. شرب القهوة الفرنساوي التي كنا نعشقها من محل صغير بجانب سينما ميامي من غيري. تبدلت احوالهم.. ندرت مواعيد لقائهم.. حتي جنازتي,لم اشهد دموعا بهذه الوفرة والغزارة.. سوي من رفقائي, اما الاهل والاقارب فان الامر بالنسبة لهم تأدية واجب لااكثر, اما ابواي.. فكانا مكلومين.. انهارا بمجرد سماعهما الخبر.. كسا الذهول ملامحهما المتجعدة. وباتا يسألان الله الصبر والسلوان! اما انا, هنا في وحدتي, لم اعد اأتنس بأحد.. او اسامر احدا, ليلي مثل نهاري, انتظر المواسم والاعياد, لأحظي برفقة اصدقائي, يأتون فرادا او جماعات, يبادرونني بالتحية ثم يتلون ايات القرآن.. وينثرون الزهور فوق قبري.. وتقوم ام سيد بدلق الماء لينبت الصبار من فوقي!, ويتصدقون بما يجودون به, ويكلمونني احيانا.. وارد عليهم التحية واود لو اقدر ان اجلس معهم, اسامرهم.. اود لو استطع ان اروح معهم.. الي حيث الشوارع والناس! ويختتمون الزيارة بالدعاء لي, بالرحمة والمغفرة.. علي وعد بزيارةاخري. ومنذ خمس سنوات..... لم يزرني احد! انقطعت زيارة الاهل والاقارب... بت ارقب وحدتي وهي تكبر, وتنمو كالاشجار الوارفة التي تحوط فناء المدفن.. ونباح الكلاب الضالة, الذي يشق صمت المكان.. ينبهني, عل صوت اقدام اتية علي المدق الترابي, المفضي من طريق الاسفلت, حيث العربات والمارة... لكن لااحد يأتي! لم يعد يتذكرني الرفاق ؟.. اغيبتهم الشواغل والملاهي.. هل اقعد المرض والحزن ابواي.. فلم يعدا يقويان علي المجيء.. هل مازال الاصدقاء يتسامرون في حديقة روبي.. هل مازلت اجول بخاطرهم.. هل مازالو يذكرون تغريداتي ومداعباتي.. أمازال الناس يروحون ويجيئون في شوارع وسط البلد؟ ..أمازال بائع الحواوشي في مكانه.. والمقهي الصغير المنزوي خلف البنايات في موقعه, يسخر من تغير رواده.. هل مازال بائع العرقسوس يتجول في الشوارع, يصدح بصوته, يصك الاذان بصاجاته النحاسية. هل مازالت المدينة بقلبها الجامد.. وعيونها الحجرية التي لاتدمع.. هل مازال شرطي المرور واقفا, في اشارة شارع طلعت حرب, يزعق للعربات المخالفة, ثم يشيح بيده في سأم.... اما زال شاي حديقة جروبي ساخنا... يتصاعد بخاره الابيض! مهاب حسين مطفي