بعد عيد الأضحى.. أسباب تأخير الإعلان عن تشكيل الحكومة.. تطبيق معايير خاصة جدا لاختيار المجموعة الاقتصادية والخدمية.. والمفاضلة بين المرشحين للنهوض بالبلد وعدم تصدير أزمات.. والاعتذارات ضمن القائمة    «التعليم» تحدد حالات الإعفاء من المصروفات الدراسية لعام 2025 الدراسي    عمرها 130 عاما، أكبر حاجة لهذا العام تصل السعودية    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأربعاء 12 يونيو 2024    تباين أداء مؤشرات البورصة بمستهل تعاملات اليوم    «الإسكان» تتابع الموقف التنفيذي لمشروعات المرافق والطرق في العبور الجديدة    الرقابة على الصادرات تبحث مع الملحق التجاري لباكستان سبل التعاون المشترك    المجتمعات العمرانية تحذر من إعلانات عن كمبوند بيوت في المنصورة الجديدة: لم يصدر له قرار تخصيص    اندلاع عدد من الحرائق في إسرائيل بسبب صواريخ حزب الله    أ ف ب: لجنة تحقيق أممية تتهم إسرائيل و7مجموعات فلسطينية مسلحة بارتكاب جرائم حرب    الأمم المتحدة تنتقد إسرائيل وحماس بسبب انتهاكات حقوق الأطفال    رئيس الوزراء اليوناني: تيار الوسط الأوروبي لديه الزخم للتغيير بعد انتخابات البرلمان الأوروبي    ليفاندوفسكي يغيب عن بولندا أمام هولندا في اليورو    "مكافحة المنشطات" تكشف موقف رمضان صبحي ومدة إيقافه    "الحمد لله إن ده مصطفى".. تعليق ناري من ميدو عن واقعة استبدال صلاح وما فعله حسام حسن    بيراميدز يرد على مطالب نادي النجوم بقيمة صفقة محمود صابر    التأمين الصحي بالغربية: غرفة طوارئ لتلقي أي شكاوى خلال امتحانات الثانوية    تحرير 1285 مخالفة ملصق إلكتروني ورفع 47 سيارة ودراجة نارية متروكة    قبل بدء محاكمة "سفاح التجمع".. انتشار أمني مكثف في محكمة التجمع    ماس كهربائي.. تفاصيل نشوب حريق داخل شقة في العمرانية    "حطوهم جوه عينيكم".. مدير أمن بورسعيد يتفقد قوات تأمين امتحانات الثانوية العامة (صور)    مناسك (6).. الوقوف بعرفات ركن الحج الأعظم    المهن السينمائية تنعي المنتج والسيناريست الكبير فاروق صبري    أفضل أدعية يوم عرفة.. تغفر ذنوب عامين    بايدن يدرس إرسال منظومة صواريخ باتريوت إلى أوكرانيا    الحكومة الجديدة فى مهمة اقتصادية من الدرجة الأولى.. ماذا في انتظارها؟    رئيس جامعة المنيا يتفقد لجان امتحانات كلية الهندسة    البورصة المصرية تطلق مؤشر الشريعة EGX33 Shariah Index    تعرف على التأخيرات المتوقعة لبعض القطارات اليوم بالسكة الحديد    تفاصيل مشاجرة شقيق كهربا مع رضا البحراوي    رئيس إنبي: لم نحصل على أموال إعادة بيع حمدي فتحي.. وسعر زياد كمال 60 مليون جنيه    بطل ولاد رزق 3.. ماذا قال أحمد عز عن الأفلام المتنافسة معه في موسم عيد الأضحى؟    امتحانات الثانوية العامة 2024.. هدوء بمحيط لجان امتحان الاقتصاد والإحصاء بأسيوط    وزير الأوقاف يهنئ الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك    دار الإفتاء: يجوز للحاج التوجه إلى عرفات فى الثامن من ذى الحجة يوم التروية    "مقام إبراهيم"... آيةٌ بينة ومُصَلًّى للطائفين والعاكفين والركع السجود    مصر خالية من أى أوبئة    احذري تعرض طفلك لأشعة الشمس أكثر من 20 دقيقة.. تهدد بسرطان الجلد    وزير الصحة: تقديم كافة سبل الدعم إلى غينيا للتصدي لالتهاب الكبد الفيروسي C    موعد مباراة سبورتنج والترسانة في دورة الترقي للممتاز والقنوات الناقلة    نقيب الصحفيين الفلسطينيين: موقف السيسي التاريخي من العدوان على غزة أفشل مخطط التهجير    ماذا يحدث داخل للجسم عند تناول كمية كبيرة من الكافيين ؟    استشهاد 6 فلسطينيين برصاص إسرائيلي في جنين بالضفة الغربية    تحويلات مرورية جديدة.. غلق كلي لكوبري تقاطع محور "محمد نجيب والعين السخنة"    هيئة الدواء: هناك أدوية ستشهد انخفاضا في الأسعار خلال الفترة المقبلة    «الزمالك بيبص ورا».. تعليق ناري من حازم إمام على أزمة لقب نادي القرن    رئيس الأساقفة جاستين بادي نشكر مصر بلد الحضارة والتاريخ على استضافتها    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    عاجل.. تريزيجيه يكشف كواليس حديثه مع ساديو ماني في نهائي كأس الأمم الإفريقية 2021    رسميًا.. تنسيق الثانوية العامة 2024 في 5 محافظات    خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    الفرق بين الأضحية والعقيقة والهدي.. ومتى لا يجوز الأكل منها؟    الكويت: ملتزمون بتعزيز وحماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وتنفيذ الدمج الشامل لتمكينهم في المجتمع    عصام السيد يروى ل"الشاهد" كواليس مسيرة المثقفين ب"القباقيب" ضد الإخوان    يوسف الحسيني: القاهرة تبذل جهودا متواصلة لوقف العدوان على غزة    بالفيديو.. عمرو دياب يطرح برومو أغنيته الجديدة "الطعامة" (فيديو)    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل قصواء الخلالى: موقف الرئيس السيسي تاريخى    حظك اليوم| الاربعاء 12 يونيو لمواليد برج الميزان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الوطن» على خط النار وجبهات القتال فى «حلب»
«الأسد» يقصف المدينة ب«البراميل المتفجرة».. و«الثوار» يردون ب«الكلاشينكوف» و«الدوشكا» والأسلحة يدوية الصنع
نشر في الوطن يوم 12 - 12 - 2012

جلس على مقعد خشبى متهالك، لا يأبه بالقناص الذى ارتكز على سور القلعة الحلبية المقابلة، ممدداً ساقه المصابة أمام ناظريه بعدما وضعها فى كيس بلاستيكى قبل أن يحكم لفها بجوال ربما كان لحبوب أرز أو قمح ندر وجودهما فى سوريا منذ شهور، محاولاً المرابطة على جبهته، وفى الوقت نفسه أن يبقى جرحه نظيفاً بعيداً عن أى تلوث ناتج من أدخنة قذائف الدبابات التى أرسلها الجيش السورى من داخل القلعة الحلبية لتدك منازل المدنيين تارة ومحال السوق القديمة تارة أخرى.
الدمار المحيط بالجبهة المعروفة بالنقطة «أ» كان كفيلاً لسرد معاناة حلب القديمة؛ فهذا البيت دُمر بقذيفة دبابة، وذاك تم حرقه بقذيفه هاون، أما الدماء السائلة فى منتصف الشارع فهى لفتاة فى العقد الثانى من عمرها اقتنصها رجال الأسد أثناء مرورها بالشارع لتظل جثتها قابعة 4 أيام متتالية فشل خلالها المدنيون والجيش السورى الحر فى انتشال جثمانها ليتوسط بعض أهالى المدينة ويقنعوا قناصة الجيش الأسدى بوقف إطلاق النيران حتى انتشال الجثة، لكن وعود الجيش تلاشت بمجرد وصول الأهالى للمنطقة ليحاصَروا بوابل من الطلقات.
ما زال الشاب يجلس على مقعده، يراقب علامات الدهشة التى سادت على وجوهنا أنا وسلطان، الشاب الحلبى الذى رافقنى فى مهمتى الصحفية داخل حلب، يرانا نقلب وجهينا فى شوارع حلب القديمة، ليقاطعنا بكلامه: «لا تقربا هذا الشارع فإنه يقع فى مدى قناصة الأسد». أخبرناه بأننا نريد رؤية القلعة الحلبية والجامع الأموى، فأجابنا باستحالة تنفيذ رغبتنا وأن ما يستطيع فعله هو أن يرينا سور القلعة من بعيد؛ فقناصة الأسد تصطاد كل من يحاول الاقتراب، أما فكرة الوصول للجامع الأموى فيجب أن نمحوها من مخيلتنا، خاصة بعدما قصفه الجيش الأسدى.
أخذنا محمد نور، الشاب العشرينى، وهو يتكئ على بارودته ولف بنا من شارع خلفى ثم طلب منا الجرى سريعاً لقطع الطريق بعد تأمينه، وجعلنا نقف خلف حائط مطالباً إيانا بالانبطاح ومحاولة إخفاء الكاميرا حتى لا نكون طُعما للقناصة، وبالفعل 5 دقائق كانت كفيلة لالتقاط بعض الصور تبعها إطلاق رصاص من القلعة الحلبية ليصرخ فينا الشاب ويطلب منا الدخول لأحد المبانى المجاورة.
نفذنا الأوامر دون أن نعرف إلى أين نذهب لنكتشف أن المبنى هو مسجد صغير مكون من طابقين، قادنا الشاب إلى الطابق الثانى ثم أحضر سلماً حديدياً أوصلنا بعد ذلك إلى شباك صغير، صعدنا السلم وخرجنا من الشباك لنجد أنفسنا أمام منزل قال عنه الشاب إنه لأحد الأطباء، دخلنا المنزل مطأطئين رؤوسنا ومحنيى الظهور، قال الشاب: «نحن الآن فى أمان، ويمكنكم رؤية القلعة بشكل أوضح، ولكن بسرعة هذه المرة حتى لا تلفتوا الانتباه»، رفعنا رؤوسنا فوجدنا بيتاً جدرانه ونوافذه زينتها رصاصات القناصة، رأينا القلعة بشكل أوضح، القناصة مرتكزون على سور القلعة وكاميرات المراقبة تساعدهم فى مراقبة الشوارع ورصد الصور أولاً بأول.
أنهيت مهمتى بنجاح وظلت عبارة الشاب بأن نمحو من مخيلتنا فكرة الوصول إلى الجامع الأموى تتردد على مسامعى، سألته: «لماذا لا تساعدنا فى الوصول إلى الجامع الأموى؟ فلا بد من وجود طريقة نصل بها إليه كما وصلنا إلى القلعة». صمت الشاب قليلاً وهنا تدخل صديقه «عبدالله الخلف» ليرد علينا: «لأننا كنا المجموعة التى نفذت عملية اقتحام الجامع الأموى فى منتصف أكتوبر الماضى وسيطرنا عليه وطردنا الجيش الأسدى رغم تفوقه علينا فى العدد والعتاد، لكن عمليات قصفه من قبل النظام جعلتنا نتراجع حتى لا يقضى الأسد على ما تبقى من الجامع».
يستند «نور» على كتف صديقه الذى يحاول إيصاله إلى كرسيه المتهالك ويقول: «كنا 9 أشخاص نحمل سلاحاً خفيفاً تسلقنا الجامع من الخارج إلى أن دخلناه، لكن رصاصات الأسد كانت أسرع فى طريقها إلينا، وكان نور فى مقدمتنا ليأخذ طلقتين فى قدمه، بينما استشهد أحد رفاقنا وأصيب 4».
يقلب الشاب كفيه قائلاً: «حاولنا السيطرة على الجامع، وطرد عناصر الجيش الأسدى بعدما عاثوا فى المسجد فساداً؛ فبعد انتهاء الاشتباكات التى انتهت بفرار أغلب رجال الأسد وجدنا قنانى المشروبات وملابس داخلية للنساء ومصاحف محروقة وشبابا معتقلين، صورنا كل هذا حتى يكون توثيقاً للجرائم التى ارتكبها الجيش الأسدى فى حق أقدم جامع أموى فى مدينة حلب الذى يزيد عمره على 1300 سنة ويضم متعلقات للنبى محمد، صلى الله عليه وسلم.
لم يلبث أن سيطر الجيش الحر على الجامع الأموى حتى رد عليهم النظام بقصف الجامع، ما أدى إلى حرق أجزاء كبيرة منه وهدم أجزاء أخرى، وهو ما أكده «الخلف»، مردداً: «إحنا لو عايزين ناخد الجامع والقلعة سهل، بس احنا خايفين يضربوا الجامع، عندنا الجامع أهم حالياً، إحنا محاصرين الجامع والقلعة ومانعين الإمدادات عنهم.. أمس انشق منهم 3 عساكر وسلمونا حالهم وهلا هما عند أهاليهم إن شاء الله ننتصر عليهم وقت ما ييجى لنا إمداد من الذخيرة».
انتشار الجثث فى أروقة الشوارع لم يكن شيئاً مقصوراً على حلب القديمة فقط، وإنما بات أمراً معتاداً فى شوارع المدينة بأكملها، خاصة فى أماكن الاشتباكات، وهو ما رصدته «الوطن» خلال زيارتها لجبهة صلاح الدين الواقعة غرب المدينة، التى شهدت شوارعها ومنازلها ومدارسها، وما زالت، قصفاً عنيفا من قبل الجيش الأسدى، بداية من البراميل المتفجرة التى تُسقطها طائرات النظام، مروراً بالصواريخ والمدفعية الثقيلة، نهاية بالقناصة المنتشرين فى كل مكان.
الطريق إلى «صلاح الدين» ليس بالأمر الصعب؛ فما عليك فعله هو اتباع صوت التكبيرات التى تتبع «طقطقة» السلاح الأسدى، بحسب تعبيرات الجيش الحر، إلى أن تجد حاجزاً يرفرف عليه علم الاستقلال بألوانه الأخضر والأبيض والأسود تتوسطه 3 نجوم حمراء، وهو علم الدولة السورية أثناء الاحتلال الفرنسى لسوريا، تقف على الحاجز وتقدم نفسك إلى أفراده الذين يقدمون لك اختصاراً سريعاً عن الأوضاع داخل «الجبهة» ثم يتركون لك القرار بالدخول أو التراجع، فإذا قررت الدخول ستجد من يرافقك لكى يؤمن لك الطريق بعيداً عن أعين القناصة.
الوضع الأمنى فى «صلاح الدين» كان أكثر توتراً؛ فالجيش الحر محاصَر من الشمال بحوالى ألفى جندى من الجيش الأسدى الذى يتخذ من استاد حلب الدولى مقراً له هو وطائراته، فيما يوجد 70 مقاتلاً فى الجنوب يسيطرون على دوار صلاح الدين بقناصتهم ولا يسمحون لأحد بالمرور، رغم أن الجيش الحر رفع علم الاستقلال وسط الميدان.
«أبوحمزة» كان مرافقنا على الجبهة التى بدأت من شارع جانبى سماه الثوار «شارع الشهيد فادى».. بدا هذا واضحاً من كتاباتهم على الحوائط المتبقية من بنايات الشارع التى لم يتبق منها سوى أعمدة وبقايا أثاث متفحم ومحال خربة، صوت التكبير يعلو كلما تقدمنا داخل الشارع، لنجد الثوار يمسكون بميكروفون موصَّل بسماعة ويرددون التكبيرات المصحوبة بالهتافات: «لبيك لبيك لبيك يا الله.. نبينا للأبد سيدنا محمد»، تركنا الهتافات لتوقفنا سيارتان مدمرتان لم نأبه بهما وواصلنا السير إلى أن صرخ «أبوحمزة» مطالبا إيانا بالتوقف فى أماكننا وعدم متابعة السير.. كان ذلك دليلاً على أن السيارتين وُضعتا كحاجز لمنع الأشخاص من تعديهما حتى لا يكونوا صيداً ثميناً لقناصة الأسد.
وقفنا ووقف «أبوحمزة» إلى جوارنا، ثم أشار على شىء يشبه الميدان.. تتوسطه حديقة دائرية، رفع على ماسورة صغيرة بها علم الاستقلال وآخر أبيض مكتوب عليه «لا إله إلا الله»، عرفت فيما بعد أن هذا هو دوار صلاح الدين، استمر «أبوحمزة» فى إشارته إلى الميدان قائلاً: «أترون الجثمان الملقى هناك؟»، أمعنَّا النظر فلم نجد شيئاً، سألته: «أين الجسد؟»، قال لى: «الجسد الملقى هناك»، أخبرته بأننى لا أرى شيئاً، ظننت فى البداية أنه يسخر منا، لكن الظروف التى كنا فيها لا تدعو إلى السخرية؛ فالضرب حولنا فى كل مكان ونحن نحتمى فى شارع جانبى.
جملة «أبوحمزة» جاءت هذه المرة قاطعة: «هذا الجسد لشاب من أبناء الجيش الحر قتله قناصة الجيش الأسدى عندما كان فى طريقه لرفع علم الاستقلال فى الميدان ونحن نحاول منذ 3 أشهر انتشال الجثمان، لكن القناصة تحول بيننا وبينه»، هنا أمعنت النظر وأخبرته: «هل تقصد قطعة القماش حمراء اللون الملقاة بجوار الحائط؟». أجابنى بالإيجاب مع اعتراضه على جملة «قطعة القماش».
رسائل تأتى ل«أبوحمزة» على هاتفه اللاسكى أو «القابضة»، بحسب تعبيرات الجيش الحر، يستقبلها مطالباً إيانا بالتحرك سريعاً لإنهاء جولتنا؛ لأن الأوضاع ستزداد سوءاً بعد قليل، حدة الاشتباكات تزداد ويزداد معها «طقطقة» القنص والدوشكا الروسى، يهرول بنا الرجل فى اتجاه ما تبقى من مسجد «صلاح الدين» الذى كان شعلة الثورة فى المنطقة وما يحيط بها.
الدمار فى كل مكان، الزجاج الملون لنوافذ المسجد متناثر، الحوائط تتخللها فتحات كبيرة يبدو أنها كانت معبراً لمرور قذائف الهاون، وهو ما علق عليه «أبوحمزة»: «لما حررنا المسجد كان الجيش بارك فيه بياكل ويشرب ويلعب الشدة -أى الكوتشينة- كان فيه أدوية ب5 ملايين ليرة سورية لم نجدها، كنا حاطينها فى المسجد، خدوا كل الأشياء القيمة حتى شاشات التلفاز».
يأخذنا «أبوحمزة» إلى ساحة المسجد بالخارج لنجد أوراق «الشدة» وأغلفة الأكل متناثرة فى الساحة، يقف أمامها الرجل وكلمات «الحسبنة» والدعاء على عناصر الجيش الأسدى لا تفارق شفتيه ليعلن بعدها انتهاء جولتنا فى جبهة «صلاح الدين»، مودعاً إيانا قائلاً: «الجيش الحر قادر على تحرير صلاح الدين ربما فى ساعات إذا توافرت لديه ذخيرة كافية، فسبق أن سيطرنا على استاد حلب الدولى إلا أن نقص الذخيرة جعلنا نتراجع أمام قوات الأسد التى اتخذت من الاستاد مقراً لطائرات الأسد ودباباته».
نقص السلاح لم يكن أمراً خاصاً بجبهتى «صلاح الدين» و«حلب القديمة» فقط، بل امتدت لتشمل جميع جبهات حلب ليصبح وضعاً عاماً يعانيه أبناء الجيش الحر، وهو ما شاهدناه على جبهة «العامرية» حين تقدم شاب تبدو عليه علامات الإرهاق لقائد إحدى الكتائب المشاركة فى جبهة العامرية وطلب منه أن يمده بالذخيرة؛ فهو يرابط أيضاً هو وكتيبته على نفس الجبهة، اعتذر القائد وأخبره بأنه لا يمتلك ذخيرة وما يملكه وُزع على أفراد كتيبته، فما كان من الشاب إلا أن قال له: «أنا لا أريدها بالمجان فأنا معى مصارى سأشتريها منكم وتقومون أنتم بشراء ذخيرة فيما بعد»، اعتذر القائد للمرة الثانية وأقسم له إنه لا يمتلك حقاً ذخيرة كافية، ليعود الشاب إلى رفاقه فى الجانب الآخر حاملاً بارودته الخاوية ودموعه فى عينيه لا يعلم ماذا يفعل.
انتظرنا لدقائق محاولين معرفة وضع الجبهة، خاصة بعد ورود أنباء عن أن الجيش الأسدى حاصرها، الأعصاب كانت متوترة ومشدودة، وأنباء الحصار كانت حقيقية؛ حيث التف الجيش الأسدى وحاصر الجيش الحر ودارت اشتباكات عنيفة انتهت بقيام الجيش الحر بقذف القنابل اليدوية على الجيش الأسدى، ما أدى إلى تراجعه وعودة سيطرة الجيش الحر على جبهته مرة أخرى، بحسب كلام محمود المصرى، الذى وقف يتحدث معنا وهو يجرب المنظار المقرب الذى ركبه على سلاح كلاشينكوف حديث محاولاً به اصطياد قناصة الأسد.
أمسك المصرى بالكلاشينكوف محاولاً تجربته، لكنه لم يتمكن من إصابة الهدف، وهو ما جعل زميله يطلب منه السلاح ليجربه قائلاً له: «يدك مرتعشة ولا نمتلك ذخيرة كافية» ثم ثبت السلاح على كرسى أمامه وجربه قبل أن يعطيه إلى قناص الكتيبة؛ ففى كل مجموعة من ثوار الجيش الحر يتم اختيار قناصة وصائد طائرات على الدوشكا أو ال«آر بى جى».
أخذ زميلهم السلاح وصعد إلى الطابق الثانى لإحدى البنايات المطلة على الجبهة، متخذاً من شرفتها مقراً له لاصطياد قناصة الأسد من ناحية وتأمين ظهر الجيش الحر من ناحية أخرى، فيما وزع بقية شباب الكتيبة أنفسهم على الجبهة محتمين بالبنايات المحيطة رغم تهدمها، بينما هرول من لم يحظَ بذخيره إلى زميلهم المسئول عن توزيع القنابل اليدوية محلية الصنع، لكن القذائف الجاهزة كانت أسرع للوصول إليهم وإلينا؛ حيث سقطت بجوارنا قذيفتا «هاون» امتصت حدة تصادمهما جدران البنايات المحيطة بنا.
لم ننتبه للقذيفتين إلا بعد سقوطهما داخل البناية المجاورة لنا بعدما أحدثتا ثقبا لا بأس به فى جدرانها، بينما أحرقت القذيفة الثانية بعضاً من متعلقاته، وهو ما بدا واضحا من الدخان الذى تصاعد من البناية بعد ذلك، فكل ما نتذكره أن شيئاً سريعاً خاطفاً مر من فوقنا ثم اهتزت الأرض بنا.
صرخ الشباب وطلبوا منا مغادرة المكان فوراً بعدما نادوا على أحد الأشخاص يدعى «حسان السبع» لاصطحابنا إلى خارج الجبهة وهو ما نفذه السبع دون نقاش ليحملنا فى سيارته ويخرج بنا بعيداً عن اشتباكات العامرية.
استهداف ثوار الجيش الحر أمر معتاد من قبل قناصة الأسد، وهو ما تعرض له «أبوعلى»، قائد كتيبة بجبهة الإذاعة وسيف الدولة، التى تعد من أكثر الجبهات سخونة فى حلب وتكمن خطورتها فى أن منطقة الإذاعة تعد من أعلى المناطق الموجودة فى حلب والسيطرة عليها تعد سيطرة على المدينة بأكملها وبالتالى المناطق التى حررها الجيش الحر من قبضة الجيش الأسدى.
«جبهة الإذاعة» كانت جولتنا الثالثة داخل مدينة حلب، ذهبنا إلى منطقة السكرى التى تعد من أقرب المناطق إلى الإذاعة نسأل الباعة عن كيفية الوصول إلى برج «الإذاعة» الذى يشق سماء المدينة الحلبية فنظروا إلينا نظرات غريبة وكأن بنا ضربا من الجنون.
طيران «الميج» يحلق فوق المنازل السكنية، الأهالى يرتعدون من سماع صوته خوفا من أن يصيبهم برميل متفجر يطيح بالمنطقة بأكملها وليس ببناية واحدة؛ فالبرميل المتفجر هو آخر وسيلة لجأ إليها الأسد لإبادة شعبه بعدما توقف عن قذف الصواريخ مستبدلاً بها براميل تحتوى على مادة «TNT».
ما زلنا مُصرين على سؤالنا والأهالى أيضاً مصرون على عدم الإجابة لنقرر التوقف عن ذكر كلمة «الإذاعة» والاستبدال بها السؤال التالى: «أين يقع أقرب حاجز للجيش الحر؟»، أخبرونا بأنه فى مدرسة «شنن» وطالبونا بالتزام الحذر من القناصة وأن نمشى بجوار الحائط وليس فى منتصف الطريق.
وصلنا إلى المدرسة وعرفنا أنفسنا للجيش الحر الذى لم يتردد لحظة فى حملنا إلى الجبهة، ركبنا سيارة « بيك أب»، شبيهة بسيارات الدفع الرباعى، السيارة تسير بسرعة جنونية ترتفع بنا فى الهواء ثم تهبط إلى الأرض مرة واحدة، رفيقى سلطان طلب منى التشبس بالمقعد، خاصة أن شوارع المدينة كلها منحدرات ومرتفعات، سائق السيارة يعتذر لنا مردداً: «هذه هى الطريقة الوحيدة التى نستطيع منها الإفلات من قناصة الإذاعة، هم يكشفون المنطقة بأسرها ويتلذذون بقنص الأشخاص حتى إن كانوا داخل منازلهم».
وصلنا إلى الجبهة، صوت «الطقطقة» يحيط بنا من كل مكان، بدأت الشمس تغيب عن سماء «الإذاعة»، الثوار يقتادوننا من منزل إلى آخر ومن ساحة إلى حديقة يطلبون منا غلق فلاش الكاميرا حتى لا تكون سبباً فى مقتلنا، يتوقف بنا الشباب أمام أحد المنازل ثم يطلب منا قطع الطريق سريعاً للوصول إلى المنزل الواقع فى الجهة المقابلة وألا نلتفت خلفنا مهما حدث، ثم يشير إلى الستائر التى تقطع عرض الشارع من اليمين إلى اليسار، قائلاً: «هذه الستائر تحمينا من أعين القناصة، خاصة فى الليل، لكن هذا لا يمنع أن تقطعوا الشارع سريعاً دون الالتفات خلفكم».
نفذنا الأوامر حتى وصلنا إلى الجانب الآخر من الشارع بمحاذاة الستائر، دخلنا إحدى البنايات التى يبدو من هيئتها أنها كانت مشروعا لبناية سكنية لم تكتمل؛ فأرضها ما زالت أسمنتية ودون حوائط ليتوقف بنا الشاب فجأة خلف عمود ويطلب منا التقاط الصور؛ فالجيش النظامى يقف فى البناية المقابلة لنا، التقطت بعض الصور ثم عُدنا أدراجنا إلى نقطة البداية، مررنا عبر البنايات التى أصبحت كالأنفاق تنقل الجيش الحر بين أسوارها.
فى عودتنا مررنا من طريق مختلف أملاً فى أن نلتقى قائد الجيش الحر فى الجبهة «أبوعلى» الذى لا نعرف عنه سوى أنه صاحب المنزل الذى استهدفه رجال الأسد بصاروخ، وأثناء مرورنا عبر الأنفاق المنزلية قابلنا مجموعة من الجيش الحر بعضهم يؤدى صلاة المغرب والبعض الآخر يحاول توفير إضاءة خافتة لزملائه، بينما عكف بعضهم على تحضير وجبة يبدو من محتوياتها أنها وجبة الإفطار، نلقى السلام على الشباب فيردون السلام بالسلام الممزوج بالعتاب الذى تعددت جمله: «كان نفسنا يكون موقف مصر داعم للثورة السورية.. ملّينا من خطابات الرئيس المصرى، ادعمونا حتى ولو بخروج المظاهرات».
لم أجد من الكلمات ما أرد به على الشباب سوى الدعاء لهم بالنصر.. حينها أدرك الشباب أنهم وضعونى فى موقف محرج ليقاطعهم شاب مازحاً: «احنا عازمينك على عجة حلبى»، ابتسمت وقلت له: «كان نفسى أجربها بس احنا لازم نتحرك، بالهنا والشفا والأكلة الكبيرة بعد النصر».
ودّعنا الشباب المعاتب إلى أن وصلنا خارج الجبهة أمام بناية «أبوعلى» المهدمة؛ فوجدنا الشباب يهرولون تجاه رجل يبدو أنه فى العقد الرابع من عمره يرتدى بنطالاً مموهاً وجاكيت أحمر اللون يصافحونه ويخبرونه بوجودنا.
تقدم الرجل وعرّفنا بنفسه «أبوعلى» ثم دعانا للدخول إلى نفس بنايته المهدمة، لكن من باب آخر ما زال محتفظاً بصموده، المكان عبارة عن شقة مكونة من ثلاث حجرات وصالة ملحق بها مطبخ صغير يوجد به غسالة وموقد، جلسنا فى الصالة وسط شباب الجيش الحر لاحتساء القهوة فى محاولة لمواجهة البرد القارس، كل شىء يبدو غريباً فى المكان؛ فأعلى التلفاز توجد أشياء تبدو أنها ألغام أو متفجرات لم أتعرف منها إلا على قنبلة يدوية شبيهة بالتى نراها فى المسلسلات وإن كانت تبدو مختلفة بعض الشىء.
أوجه سؤالى إلى «أبوعلى»: «هى القنبلة دى شكلها غريب كده ليه؟». يضحك الرجل قائلاً: «لأنها محلية الصنع؛ فنحن نواجه نقصاً حاداً فى الدعم والذخيرة؛ لذلك نعمل على تصنيعها محلياً». يمسك «أبوعلى» بالقنبلة محاولا شرح طريقة تصنيعها: «هذه كما تقولون بالمصرى أوكرة باب جوفاء نضع بداخلها مادة متفجرة ونسدها ونلصقها عوضاً عن القنابل الجاهزة، علما بأن تكلفة هذه القنبلة لا تتجاوز 9 دولارات، بينما يصل سعر القنبلة الجاهزة إلى 200 دولار».
أخذنا «أبوعلى» فى جولة داخل شقته التى تشبه إلى حد كبير المختبر؛ فالأسلاك مختلفة الألوان والأحجام معلقة على الحائط، يقف أمامها الرجل مردداً: «هذه الأسلاك نستخدمها فى تصنيع المتفجرات»، ثم يترك الأسلاك المعلقة وندخل إلى غرفة مجاورة بها مواد طبية: «وهذه لتعليم شباب الجيش الحر أساسيات الإسعافات الأولية من وقف النزيف وخياطة الجرح»، وفى مقابل هذه الأدوات وُضعت طاولة عليها شىء ما يشبه الأسطوانة صنعها «أبوعلى» لتكون بديلاً عن قذيفة الأفراد التى يطلقونها فى مواجهة قذيفة ال«آر بى جى».
يبدأ فى شرح كيفية عمل «قذيفة الأفراد يدوية الصنع»، ثم يؤكد أن فاعليتها ضعف فعالية الجاهزة، وأنه تأكد من ذلك بعدما جربها قائلاً: «فجرنا قذيفة الأفراد الجاهزة داخل غرفة فتعبأت بالشظايا وعندما قمنا بتجريب اليدوى أطلقت شظايا وهدمت جدران الغرفة».
تجربة السلاح اليدوى جاءت ردا على ارتفاع أسعار الأسلحة وعدم وجود نقود كافية لشرائها؛ فوفقاً لكلام «أبوعلى» فإن قذيفة الأفراد الجاهزة وصلت تكلفتها إلى 65 ألف ليرة سورية، بينما تصنيع القذيفة اليدوية كلفه 800 ليرة فقط.
ما زال «أبوعلى» يخفى فى جعبته الكثير الذى يكشف عنه رويداً رويداً؛ حيث طلب منا التوجه إلى مكان يشبه المخزن، وعندما وصلنا وجدناه ممتلئا بصواريخ وقذائف ودانات أطلقها النظام الأسدى ولم تتفجر ليجمعها «أبوعلى» ورفاقه للاستفادة من مادتها المتفجرة «TNT» فى صناعة الأسلحة اليدوية والزجاجات الحارقة.
بجوار غرفة بقايا القذائف غير المتفجرة كانت هناك غرفة أخرى لا يوجد بها سوى خبز متعفن وحقائب بلاستيكية سوداء معبأة بالأدوية، يشير «أبوعلى» إلى الخبز المتعفن قائلا: «نحن نحاول الاستفادة من كل ما يحيط بنا؛ فبدلاً من إلقاء الخبز نقوم بتجفيفه وبيعه مقابل شراء مستلزمات بسيطة لبعض الشباب، خاصة أننا نعتمد فى تمويلنا على الجهود الذاتية» وتابع: «كان معنا شاب استُشهد خلال اشتباكه مع الجيش الأسدى، ومنذ إعلان خبر استشهاده وعائلته المقيمة فى قطر تريد التواصل معنا وعندما توصلوا إلينا أمدونا بمبلغ مليون ليرة سورية».
«أبوعلى» يرى أن العمليات العسكرية التى قامت بها جبهتا سيف الدولة والإذاعة يجب أن تدرَّس؛ فالاشتباكات لم تنقطع عن الجبهة منذ 3 أشهر دون توقف بسبب رغبة الجيش الأسدى فى السيطرة على أعلى منطقة فى حلب؛ حيث يبلغ ارتفاعها 911 متراً عن سطح دوار «الصاخور»، وبالتالى السيطرة عليها تعنى السيطرة على جميع المناطق المحررة.
صوت أحد شباب الجبهة جاء قاطعاً لحديثنا، مذكراً «أبوعلى» بموعد اجتماعه مع بقية أفراد الجبهة لوضع الخطط والجدول الزمنى للعمليات والاشتباكات، إضافة إلى تجريب الصاروخ الذى انتهى من تصنيعه تواً ليعتذر الرجل إلينا على استحياء، مازحاً: «من كثرة الاشتباكات الشباب أصيبوا بالهيستيريا، آخرهم شاب أراد أن يسلى وقته على الجبهة أثناء مرابطته ليلاً فأحضر ميكروفوناً وبدأ بالحديث والتعارف على أفراد الجيش الأسدى فى البناية المقابلة له».
أخبار متعلقة:
«أم أسعد»: «أنا أزلم من 100 زلمة».. وأقنع «النسوان» بالنزول للجبهة
قائد المجلس العسكرى لحلب ل«الوطن»: موقف «مصر الثورة» ليس على قدر الدماء التى سفكت في سوريا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.