شاع بين كثير من الكتاب والمتحدثين في المنابر الصحفية والإعلامية في الآونة الأخيرة أن الكاتب والمتحدث إذا ما عرضت عليهم المشكلات المعاصرة للأمة, يسرف في كيل التهم وتتبع السلبيات, ويري أنه قد أدي رسالته وأبرأ ذمته بذكر هذه المثالب وتلك النقائص, وبإسرافه في إدانة المجتمع وتضخيم السلبيات والمبالغة في تصويرها, حتي يتخيل القارئ والسامع أنه ينظر إلي وحش أسطوري مخيف, أو أنه سقط في جب عميق مظلم لا سبيل إلي الخروج منه, فتطبق علي روحه ظلمات اليأس ومشاعر الإحباط من كل شيء, وأنه مفيش فايدة!! مهلا أيها السادة: والآن يا صفوة المجتمع وعقوله النيرة: ألستم جزءا من هذا المجتمع بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات ؟! أم أنكم هبطتم عليه من كوكب آخر؟! ماذا قدمتم من رؤي وأفكار وتجارب تضئ الطريق وتمهد للخروج من هذه السلبيات وتجاوزها؟! وهل كلمات الإدانة قادرة علي تخطي الأزمات؟! تريدون أن تسهموا بآرائكم ورؤاكم في سبيل البناء, أم تريدون لكلماتكم أن تكون معاول لمزيد من الهدم والدمار؟! إن هذا الموقف السلبي في التعامل مع الأزمة, نوع من الهروب والتخلص من عبء المسئولية والالتزام بقضايا الأمة, ولون من الكذب علي الذات قبل الآخرين فصاحب هذا الموقف الهروبي يتدثر بعبارات الإدانة وتوجيه التهم وتوزيع النقائص, وكأنه يشير إلي نفسه قائلا: أنا مليش دعوة!!. ما أسهل إدانة المجتمع وتتبع العورات والسقطات, أما بناء المجتمع وإصلاحه فيحتاج إلي أكثر من ذلك, يحتاج إلي نيات صادقة, وقلوب مخلصة, وعقول واعية تحمل رؤي خلاقة وفكرا قادرا علي تشخيص الأزمة ورؤيتها في مسارها الصحيح في إطار مجتمع متغير وعالم يموج بالصراعات والاضطرابات والأزمات, ثم وضع الحلول العملية للخروج من الأزمة, وحشد طاقات الأمة وتوجيهها إلي العمل الجاد والمخلص والدءوب, وصولا إلي تحقيق طموحات الأمة وآمالها, وتحريرها من أغلال الجهل والتخلف والانحطاط, والتبعية والانهزامية وسائر المثالب والسلبيات, فإن تتبع العورات والوقوف عند رصدها وتضخيمها لا يقدم شيئا, بل هو عائق آخر في طريق الإنجاز وعقبة تعترض السبيل نحو البناء والإصلاح. كأني بك يا سيدي يا رسول الله, تنظر إلينا من سجد الغيب, وتري ما نحن فيه من عجز وتقاعس وانهزام, فتنادينا وتهيب بنا أن نتعلم كيف نكون حكماء في معالجة السلبيات, فتقول: إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم. لقد كنت يا سيدي يا رسول الله- صلوات ربي وسلامه عليك- تقدم الشفاء من كل داء, مستضيئا بنور الله, ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. ولنتأمل معا كيف عالج النبي صلي الله عليه وسلم أدواء المجتمع وسلبياته, كيف ارتقي بقبائل العرب من مجتمع القبيلة إلي الدولة, ومن مفهوم العشائرية إلي مفهوم الأمة, ومن خلق الأثرة والإفراط في الفردية إلي خلق الإيثار والبذل والتضحية. لم يكتف النبي صلي الله عليه وسلم بتعليم الأمة عن طريق الوعظ والخطب والوصايا, بل كان لهم نعم الأسوة والقدوة الصالحة علي طريق الخير والعمل لنهضة الأمة وإصلاح أحوال المجتمع, كان خير إمام, وخير أب, وخير قائد, وأعدل حاكم, وأعظم معلم, وتأمل كيف كان يتعامل بحكمة وبصيرة نافذة في كل موقف, فيضيء للناس الطريق ويهديهم إلي الخير, خذ مثلا موقف معاوية بن الحكم السلمي حين سمع رجلا يعطس في الصلاة فقال له معاوية: يرحمك الله! فرماه القوم بأبصارهم, فقال: ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم علي أفخاذهم. يقول معاوية: فلما صلي رسول الله صلي الله عليه وسلم, فو الله ما رأيت معلما قبله أحسن تعليما منه, فو الله ما كهرني( زجرني), ولا ضربني ولا شتمني, وإنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس, إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. وهذا أنس بن مالك غلام النبي صلي الله عليه وسلم يقول: والله لقد خدمت رسول الله, عشر سنين, فما قال لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟! وفي هذا دلالة علي سعة صدر النبي صلي الله عليه وسلم, وحسن أسلوبه في التعليم والتربية والتوجيه, وقدرته علي احتواء نفوس من حوله بقلب الأب وروح القائد والمعلم, وحكمته وتنوع أساليبه في التربية, ومن بينها ضرب الأسوة والقدوة الحسنة دون زجر أو توبيخ إو إدانة واتهام. حتي مع السفهاء كان رسول الله صلي الله عليه وسلم واسع الصدر قادرا علي رؤية ما أداهم إلي السفه والحماقة, ورعونات الجهلاء وطيش الحمقي وضلال الضالين, من ذلك ما رواه. ولنا في حبيبنا النبي أسوة وقدوة كثيرا ما تعرض رسول الله صلي الله عليه وسلم لمواقف من هذا القبيل, من السفهاء والجهلاء, أو ممن أرادوا أن يختبروا حلمه كموقف زيد بن سعنة, وغير ذلك من مواقف لا حصر لها, ضرب لنا فيها سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم الأسوة الحسنة, وبين لنا فيها كيف نتعامل مع الأزمات والشدائد, وكيف نعالج المساوئ والنقائص بمنطق الأسوة والقدوة الذي يستند إلي الإيمان لا بمنطق الإدانة وتتبع العورات الذي يستند إلي ثقافة إبراء الذمة. إننا بحاجة إلي تقديم الأسوة التي تبني وتبعث الأمل في النفوس وتحيي فينا الهمة الصادقة والروح المتوثبة والعمل المخلص لتجاوز الأزمات والمحن والسلبيات. كذلك فإن ثقافة إبراء الذمة تتنافي مع روح الثبات وخلق الصمود عند المؤمن الذي لا ينهار في مواجهة الشدائد والمحن, وإنما يكون منه الثبات, مستندا إلي يقينه بالله ورؤية صادقة وواضحة تبتغي الخير والإصلاح, معتمدا علي توفيق الله تعالي, مصداقا لقول الله تعالي: ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) هود/.88