لاشك ان هناك تكاملا واضحا بين العلوم جميعا وهو تكامل تفرضه حاجة المجتمعات البشرية لكافة العلوم سواء كانت علوم انسانية كعلم الاجتماع وعلم الجغرافيا وعلم التاريخ وعلوم اللسانيات، أم كانت علوم تطبيقية كعلوم الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء الى آخره من علوم، ذلك التكامل لا يهدف بطبيعة الحال إلى رقى المجتمعات الانسانية فقط وانما يسعى لتحقيق الحفاظ على بقائها واستمراها وذلك عن طريق توفير الحلول المختلفة لما قد يعن لها من مشكلات على اساس علمى، ومن هذا المنطلق أصبح لكل نوع من النوعين السابقين دوره المعروف بالنسبة للمجتمعات فى العصور الحديثة، ومن ثم ظهر ما يُطلق عليه بلغة العلم مصطلح التخصص. والواقع فإن المهتم بالشأن الاجتماعى المصرى لابد وانه قد أدرك ان العلوم الانسانية فى مصر عانت على مدار عشرين عاما مضت من تجاهل مؤسسات الدولة المختلفة اللهم فيما عدا بعض محاولات من جانب وزارة الثقافة المصرية ومحاولات اخرى ليست اقل منها جدية واهمية من جانب المركز القومى للترجمة، بينما نجد الدعوات تتعالى هنا وهناك للتركيز نحو دفع القطاع الأكبر من طلاب الجامعات المصرية نحو العلوم التطبيقية على أساس ان المجتمع المصرى بوجهة نظر اصحاب تلك الدعوات قد تشبع بالمقبلين على دراسة العلوم النظرية ومبررهم فى ذلك لا يخلو من طرافة فهم يعتقدون خطأً ان اولئك المقبلون على دراسة العلوم النظرية انما هم هاربون من صعوبات دراسة العلوم التطبيقية للاستمتاع بدراسة العلوم النظرية الأكثر سهولة وضمانا للنجاح، والأدهى من ذلك فقد تكرست فى عقل المجتمع المصرى صورة قديمة يبدو فيها المُقبلون على دراسة العلوم النظرية على انهم فشلوا فى المرحلة الثانوية فى التأكيد على تفوقهم عبر المجموع ومن ثم يجب ان يحرموا من دراسة العلوم التطبيقية مانحين بانسحابهم الاضطرارى الفرصة للطلاب الأكثر تفوقا فى المجموع لدراسة العلوم التطبيقية. والحقيقة فبغض النظر عما قد يتسبب فيه هذا الاتجاه الأيديولوجى من تمييز ربما يترتب عليه اصابة معظم دراسى العلوم النظرية بحالة من الإحباط، على اساس توجه المجتمع الدائم ناحية تشجيع دارسى العلوم التطبيقية. ذلك التشجيع الذى غالبا ما تجده فى شكل أدبى او معنوى، نجد حتى دارسى العلوم النظرية محرومون منه، وهنا نكتشف ان دارسى العلوم النظرية لم يحرموا فقط مما يحصل عليه اقرانهم من تشجيع ادبى، بل ويعاقبون بنظرة المجتمع التى تمييز بينهم وبين اقرانهم، تمييزا يصل فى بعض الاحيان إلى شعورهم بالخجل وبعبثية دراساتهم وعدم جدواها مقارنة باقرانهم من طلاب العلوم التطبيقية. ويبدو لى ان اصحاب هذا الاتجاه الايديولوجى قد غاب عنهم طبيعة الدور الخطير المنوطة به الدراسات الانسانية من تنوير وتثقيف وتعريف بتاريخ الوطن وقضاياه وأهمية موقعه الاستراتيجى جغرافيا ودراسة ما يتسم به من ظواهر اجتماعية فى ريفه أو حضره وكلها امور تصب جميعها فى صالح تكوين الهوية المصرية الوطنية، وتقف درعا فكريا يحمى دارسها من محاولات الاستقطاب سواء كان سياسيا ام دينيا، كما انها بمثابة المضاد الحيوى الذى يقى متلقيه شر عمليات تغييب العقل عن طريق ما يعرف باسم غسيل المخ . إن العلوم النظرية والتطبيقية وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن لمجتمعنا ان يبدأ مسيرة انطلاقه الواعدة بنفس الافكار القديمة، فالمجتمع الناجح متقدم على المستويين النظرى والتطبيقى، كما ان المجتمع الناجح بالضرورة يكون متقدما على المستويين المدنى والعسكرى وهذا ما فهمته من خلال متابعتى لتفاصيل اللقاء الأبوى الذى جمع السيد رئيس الجمهورية باوائل الجامعات المصرية والكليات العسكرية تحت قبة جامعة القاهرة، إذ بدا لى وكأنه يحاول توصيل رسالة الى المجتمع المصرى فحواها اننا جميعا يكمل بعضنا الآخر بهدف خدمة وطننا ومجتمعنا وأمتنا العربية . من هذا المنطلق أردت ان انوه فى هذه السطور الى خطورة تجاهل العلوم الانسانية فإن غابت غاب عقل المجتمع وفكره، وعلينا ألا ندفن روؤسنا فى الرمال كالنعام وأن نواجه بجسارة ونبحث عن مخارج آمنة لأحلام وطموحات شباب الوطن ذلك إذا اردنا كمؤسسات وكمجتمع الحصول على كوادر وطنية واعية قادرة ومتزنة تصون للوطن فضله وتعمل لاجل رفعة مجتمع حفظ لها قيمتها ومؤسسات آمنت بأهمية وحساسية رسالتها ودورها فى الحاضر والمستقبل. أستاذ مساعد التاريخ القديم بآداب الإسكندرية.