لم يكن امتناع الرئيس السوداني عمر البشير عن الذهاب إلي ليبيا قبل أيام لحضور القمة الأفريقية الأوروبية بسبب تحفظ الدول الأوروبية علي خلفية قرار المحكمة الجنائية الدولية الصادر باعتقاله بتهمة ارتكاب إبادة وجرائم حرب وضد الإنسانية في دارفور إلا تعبيرا عن المشهد السوداني العام الذي تقف فيه قضية المحكمة الجنائية في زاوية ما من كل أحداثه وقضاياه لتزداد تعقيدا في هذا البلد العربي الأفريقي المهم الذي يواجه استحقاقات مصيرية ستؤثر علي بقائه ككيان موحد. وبعدها أعلن البشير أنه سيزور أفريقيا الوسطي فإذا بالمحكمة الجنائية تسبقه إلي هناك بمطالبة القبض عليه فيمتنع عن الزيارة, كما حدث من قبل أسابيع عندما طالبت المحكمة كينيا بذات الطلب قبيل إنعقاد قمة الإيجاد بشأن السودان بها, مما اضطر كينيا إلي نقلها إلي العاصمة الأثيوبية أديس أبابا, ووقعت أزمة في وقت سابق بين أوغندا والسودان لطلب الأولي ألا يحضر البشير القمة الأفريقية الأخيرة بكمبالا, أما القاهرة فقد طلبت من باريس إستضافة القمة الفرنسية الأفريقية عوضا عنها تجنبا للحرج. وبغض النظر عن الموقف الليبي الأخير وما إذا كانت طرابلس قد طلبت من البشير عدم الحضور أم أنه امتنع عن الحضور بسبب الضغوط الأوروبية علي طرابلس, فإن هذا الموقف يكشف عن حجم التطور الذي حدث في سياسة ليبيا الخارجية وعودة طرابلس بقوة إلي المسرح السياسي الدولي بصورة مغايرة عن حالة الصراع والحصار السابقة. أما بالنسبة للسودان فإن هذه الأحداث تؤكد أن قضية المحكمة الجنائية الدولية تضيف مزيدا من التعقيدات لكل قضايا السودان وشئونه وأن عدم التوصل إلي حل بشأنها يعرقل التسوية السلمية والاستقرار في جميع أنحاء السودان, وأنه سيسهم بنصيب وافر في تمزيق وحدة البلد وشرذمتها, وقد أثبتت الأحداث أن المحكمة الجنائية لاتلاحق الرئيس البشير وتقيد حركته وحده بقدر ماتحاصر السودان كله وتحكم الخناق علي مسيرته, ففضلا عن تأثيرها علي الأوضاع الاقتصادية في السودان البلد الواعد الذي كان قد احتل قبل فترة المرتبة الثالثة عربيا وافريقيا في جذب الاستثمارات الخارجية, أثرت قضية المحكمة الجنائية أيضا علي عرقلة التسوية السلمية لدارفور, إذ ظلت قرارات المحكمة الجنائية ترسل لقيادات التمرد في دارفور علي الدوام إشارات واضحة بألا يتفقوا مع نظام يلاحق رئيسه, وغالبا ماكانت الخرطوم تري أن تحركات المحكمة الدولية تجاهها مقصودة بهدف النيل منها والضغط عليها أو إرهابها وإبتزازها في كل محطات التفاوض بشأن دارفور. أما في جنوب السودان فإن قضية المحكمة الجنائية تلعب دورا أخطر, وقد تكون عاملا حاسما في رسم معالم المستقبل في السودان, وهناك رؤيتان لمدي تأثير قرارات المحكمة في تعامل الخرطوم مع قضية استفتاء تقرير المصير المرتقب لأبناء جنوب السودان في التاسع من يناير المقبل, الرؤية الأولي تري أن هناك قطاعا نافذا علي الأقل داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي يتزعمه الرئيس السوداني عمر البشير لن يرضي التسليم بإنفصال الجنوب بسهولة, خشية أن يستدير المجتمع الدولي إليه غدا للمطالبة بإستحقاقات المحكمة الجنائية الدولية وأيضا في قضية دارفور وقضيتي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق, وهو مايعني أن انفصال جنوب السودان لن يكون خاتمة المطاف في نظر أطراف عديدة في المجتمع الدولي, وأنهم أي المتشددين داخل المؤتمر الوطني ربما لجأوا من أجل ذلك إلي محاولة تعطيل الاستفتاء بأي طريقة, وهذا هو ماتتهم به الحركة الشعبية لتحرير السودان المؤتمر الوطني الذي تري أنه يسعي لعرقلة الاستفتاء عبر إثارة القلاقل لها واستخدام العناصر الموالية له في الجنوب والعرب المسيرية في أبيي وغيرها من الوسائل, وهذا الأمر ذاته ماتخشاه القوي الدولية النافذة التي صعدت في الفترة الماضية ضغوطها المكثفة علي الخرطوم لتنفيذ الاستفتاء في موعده المقرر, كما حاولت أيضا إغراء الخرطوم ببعض الوعود, إلا أن الوعود الدولية ونعني بها الأمريكية في المقام الأول ليست كافية بالنسبة للخرطوم, كما أن الضغوط عليها تراه أيضا جماعات الضغط في الولاياتالمتحدة غير كافية. فماتريده الخرطوم هو مطلبان لم تتم الاستجابة لهما حتي الآن, وقد عبر عنهما علي عثمان طه في اجتماعات نيويورك بشأن السودان مؤخرا, أولهما إلغاء قرار المحكمة الجنائية بشأن البشير, والثاني هو اسقاط الديون والعقوبات الإقتصادية, وهو مايدل علي أن قضية المحكمة هاجس رئيسي للخرطوم, ولم تتم الإستجابة للطلبين في الإجتماع أو الإشارة إليهما من قريب أوبعيد, وكل ماحدث بعد ذلك هو رفع الحظر عن بعض الآلات للخرطوم أو وعود برفعها بعد أشهر من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات. وهناك رؤية ثانية بشأن تأثير قضية المحكمة الجنائية في التأثير علي صياغة مستقبل الأوضاع في السودان, تري أن إستخدام القضية كورقة ضغط من قبل المجتمع الدولي ستثمر, وستدفع الخرطوم التي لاقبل لها علي المقاومة للإستجابة للمطالب الدولية بتسهيل استفتاء يؤدي إلي إنفصال سلس للجنوب, قد يكون بدون مقابل, أومقابل صفقة ما يتم بموجبها تأجيل قضية ملاحقة المحكمة للرئيس السوداني لمدة عام وفقا للمادة16 من ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية, تجدد بعد ذلك أو لاتجدد. ومايزيد قضية المحكمة الجنائية تعقيدا أن لاأحد من أقطاب النظام السوداني يضمن أن إتهاماتها ستتوقف عند الرئيس البشير وأحمد هارون والي ولاية جنوب كردفان وعلي كوشيب أحد قادة الميليشيات الموالية للحكومة فقط, فهناك حديث عن قوائم متهمين قد تطال أسماء أخري كبيرة في النظام, وهو الأمر الذي يوحد المؤتمر الوطني. ولعل سخط قطاعات واسعة داخل المؤتمر الوطني يعبر عنه الدكتور غازي صلاح الدين مستشار الرئيس السوداني يقول' جرد حساب الحوار السوداني الأمريكي في الأشهر الماضية, كما عبرت عنه بعض البيانات الرسمية وفصلته الصحافة الأميركية, يتلخص في العطية التالية التي تبدو كأنها قد صاغها مجموعة من الناشطين المتذاكين إلي حد السخف: أقيم الاستفتاء في موعده دون أدني نظر إلي نتائجه وشروطه الجوهرية, وحتي إن أدي إلي انفصال وحرب في آن واحد, علي الرغم من أن الاستفتاء إنما اقترح في المقام الأول لترسيخ الوحدة ولتجنب الحرب. وبمقابل ذلك سنعطيكم الآن ست رخص تصدير لشركات أمريكية في مجالات الزراعة والصحة, وعليكم مواصلة التعاون في مكافحة الإرهاب, وسننظر في رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وفي رفع العقوبات الاقتصادية في يوليو المقبل من عام2011 عندما تستكمل إجراءات الانفصال, أما محكمة الجنايات الدولية فعلي الرئيس أن يلتزم بمطالبها وأن يسلم نفسه لها لاحظ أنه هو الرئيس ذاته المطلوب منه الوفاء بالالتزامات أعلاه. ويضيف صلاح الدين: لسبب لا يخفي علي ذوي الألباب ذكرني هذا العرض بعرض قريش لأبي طالب أن يسلمهم ابن أخيه محمدا( صلي الله عليه وسلم) وأن يسلموه بالمقابل انهد فتي في قريش, عمارة بن الوليد, فكان رد أبي طالب الذكي: والله لبئس ما سامتموني: تعطونني ابنكم أغذوه لكم, وأعطيكم ابني تقتلونه. ويري صلاح الدين: أخطر من ذلك علي الجنوب والجنوبيين هو أن تقديم مثل هذا المقترح ينتقص من حق الاستفتاء بجعله عرضا من عروض التجارة. بتعبير آخر, فإن المقترح يعني أن الاستفتاء قد تنزل من كونه مبدأ وحقا ليصبح ورقة مقايضة تخدم السياسة الأمريكية في المقام الأول. وقد جعلت قضية المحكمة الجنائية حزب المؤتمر الوطني أو حكم الإنقاذ سابقا الذي حكم السودان علي مدي أكثر من عقدين من الزمان موضع لضغوط وإبتزاز ليس من المجتمع الدولي فحسب بل أيضا من أطراف داخل السودان, وفي مفاوضات الدوحة كان الدكتور خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة يتفاوض مع وفد الحكومة في القاعات المغلقة ثم يخرج أمام كاميرات الفضائيات ليطالب البشير بتسليمه نفسه للمحكمة الجنائية ويتعهد بأن قواته ستساعد المحكمة في تنفيذ إعتقاله, ومثله كان يطالب عبد الواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان عشية أوغداة أي جولة مفاوضات يصر علي عدم المشاركة فيها قبل تنفيذ قرار المحكمة, أما الحركة الشعبية شريك المؤتمر الوطني في الحكم التي مافتئت تطالب البشير وحزبه بالتعامل مع المحكمة, فقد استقبلت مظاهرات لجنوبيين في جوبا وفد مجلس الأمن الدولي مؤخرا تطالب بإعتقال البشير, وهو ما أثار غضب الخرطوم وسهم في تزايد توتر العلاقة بين الجانبين, ولم يتواني الدكتور حسن الترابي زعيم الحركة الإسلامية وشريك البشير في الانقلاب الذي قاده عام1989 قبل أن يفترقا عام1999 عن مطالبة البشير بتسليم نفسه للمحكمة حتي قبل صدور قرار الإعتقال, بينما طالب الصادق المهدي بحل للقضية يوازن بين العدالة والحفاظ علي الاستقرار والسلام في السودان. ويري الكاتب السوداني ثروت قاسم أن إلغاء أمر إعتقال الرئيس البشير هي المشكلة الحصرية للخرطوم الأن والأولوية الوحيدة لها, وأن الوعد بإزالة إسم السودان من لائحة الإرهاب لايعني لها شيئا, وأن رفع العقوبات بالنسبة للخرطوم تحصيل حاصل, وأن السماح للخرطوم بإستيراد معدات زراعية وأجهزة كمبيوتر كما فعلت واشنطن مؤخرا هو بالنسبة للخرطوم نكتة سخيفة, وأن إلغاء أمر القبض علي البشير أو علي الأقل تجميده هو الجزرة الوحيدة الني يشتهيها المؤتمر الوطني, وهو يري أن هذا الأمر لن يحدث إلا بعد عقد صفقة مع الخرطوم للسماح بالاستفتاء في موعده والإعتراف بنتائجه أو بمعني آخر تسهيل ميلاد الدولة الوليدة في جنوب السودان والاعتراف بها, ويري قاسم أن دارفور مستبعدة من هذه الصفقة, وأن نظام الإنقاذ سيضطر للإستجابة لتلك الصفقة لأنه إذا لم يفعل سيكون مصيره الهلاك. ويضيف قاسم:' إن تصريحات البشير بأن ضياع الجنوب لايعني يوم القيامة يعزز ذلك التوجه, ويضيف: أن ضياع الجنوب لايعني يوم القيامة فعلا ولكنه يعني تجميد أمر القبض عليه وتأمين بقائه في السلطة'. ولكن هذه الصفقة قد يعرقلها بعض الشيء أو يحول دونها لوبيات وجماعات ضغط هائلة تشكلت في الدول الغربية لمساندة المحكمة الجنائية الدولية من ناحية وهذه تريد أن تثبت عمل المحكمة أول مايكون علي أكتاف السودان, فضلا عن جماعات ضغط ولوبيات أخري تدعم قضايا السودان في دارفور والجنوب وغيرهما, وتتخذ هذه المجموعات من جماعات حقوق الإنسان والأمريكيين من أصل إفريقي واللوبي اليهودي واليمين المتطرف مواقف عدائية من نظام حكم في الخرطوم يرونه عربيا إسلاميا يضطهد مجموعات إفريقية غير مسلمة, وجماعات الضغط هذه قد تحول دون الوصول لهذه الصفقة مع الرئيس البشير المتهم بالإبادة وإرتكاب الجرائم في دارفور. ويبقي أن قضية المحكمة الجنائية ظلت تلقي بظلالها القاتمة علي كل قضايا السودان, وها هي اليوم يتوقف مستقبل السودان علي كيفية التعاطي معها, وهو الأمر الذي مازال حتي اللحظة محل خلاف بين القوي السودانية, وهو ما ينذر بأخطار شديدة لن يكون أي طرف بمنجي عنها. [email protected]