لسنا في حاجة لانتظار جولة الاعادة لانتخابات مجلس الشعب يوم الأحد المقبل حتي نؤكد معطيات بالغة الأهمية باتت واضحة المعالم لا ترتبط فقط بأسماء الفائزين أيا كانت انتماءاتهم الحزبية ولكنها تشير بشكل قاطع الي انتهاء حقبة العشوائيات السياسية لتحل مكانها الأحزاب الشرعية التي تتحمل وحدها مسئولية الممارسة الديمقراطية الصحيحة كما هو حاصل في كل المجتمعات المتقدمة. كان التحدي الأكبر للمصريين يتمثل في مواجهة محاولات لم ينقصها سبق الاصرار والترصد من جهات معلومة العنوان والقصد لوضع اليد علي الساحة السياسية جريا وراء أحلام اليقظة التي هيأت للقوي الخارجة علي القانون أن في استطاعتها الاستمرار في خداعها وتضليلها والادعاء بنفوذ غير حقيقي جاء الوقت لكشف حجمه الفعلي الذي ينحسر ويتراجع بشدة نتيجة التطور الطبيعي والنضج المتنامي للعمل الحزبي مما يغلق الطريق أمام تلك العشوائيات التي نمت وترعرعت في أزمنة سابقة وقت الحزب الواحد والرأي الواحد, وقد تغيرت الصورة بأكملها حيث تستوعب الأحزاب مختلف الاتجاهات والانتماءات, واتسعت مساحات حرية الرأي والتعبير لدرجة تتجاوز في الكثير من الأحيان المعايير المعمول بها في أعرق المجتمعات ديمقراطية. وبصرف النظر عن ملاحظات وتجاوزات ليست وليدة اليوم في المشهد الراهن ويعود الغالبية منها الي اعتبارات لا تخفي علي المتابعين لتاريخ الانتخابات المصرية حيث تلعب العصبيات والانتماءات العائلية والقبلية دورها وربما بما يفوق الانتماء الحزبي والبرنامج السياسي للمرشح, الا أن ذلك لا يقلل من السمات البارزة التي تميز هذا الاستحقاق الانتخابي وهو الأضخم من نوعه في التاريخ المصري وهي السمات التي يمكن حصرها فيما يلي: أولا: الثقة الكبيرة بالنفس التي اجتازت بها مصر العملية الانتخابية علي الرغم من سخونتها وكثرة عدد المرشحين ووسط اهتمام غير مسبوق من الداخل والخارج والتغطية الواسعة من شبكات المراسلين لوكالات الأنباء والفضائيات ووسائل الاعلام المحلية التي لم تكن أقل نشاطا في المتابعة الدقيقة والتفصيلية لأجواء ومجريات العملية الانتخابية لحظة بلحظة. ثانيا: النجاح الكامل لعملية تأمين العملية الانتخابية من قبل أجهزة الأمن التي يشهد لها الجميع بما في ذلك أحزاب المعارضة بأنها قد قامت بواجبها علي أكمل وجه, وأجبرت القوي الخارجة عن القانون والساعية الي استغلال الحدث الديمقراطي علي أعادة حساباتها حين أدركت عن يقين أن المساس بأمن مصر واستقرارها هو خط أحمر لا يمكن قبوله أو التساهل بشأنه تحت أية ذرائع أو مبررات. ثالثا: أسقطت النتائج المبدئية للانتخابات الأقاويل والادعاءات بوجود صفقات بين حزب الأغلبية وبعض أحزاب المعارضة وبزعم التصدي للجماعة المحظورة وهي الدعاوي التي كان يقصد من وراء الترويج لها أثبات القوة الوهمية لتلك الجماعة, وجاءت نتائج الجولة الأولي لتؤكد السقوط الجماهيري لمرشحي المحظورة واقتصار الاعادة في الغالبية العظمي علي مرشحي الأحزاب الشرعية. رابعا: أنه وحتي كتابة هذه السطور لم يعلن أحد الأحزاب التي خاضت الانتخابات عن انسحاب واحد من مرشحيه, وهي شهادة تثبت اجمالا بسلامة العملية الانتخابية وأنه يجري التعامل مع الشكاوي المقدمة بشأن وجود مخالفات بصورة جدية تضيف لرصيد التجربة الديمقراطية وتكشف عن بطلان صرخات المهزومين نفسيا وشعبيا والتي أطلقوها قبل الانتخابات وبفترة طويلة للتغطية علي فشلهم أمام الرأي العام. خامسا: ولعلها في تقديرنا أهم النتائج, أن مصر كلها, قد أوضحت للعالم بأسره أنها الرقم الصحيح والرائد في المنطقة من خلال تجربة وطنية خالصة لا تأخذ بوصفات خارجية ولا تقبل في ذات الوقت أي نوع من التدخل في شئونها الداخلية, وأن الشعب المصري الذي أنشأ أول دولة عرفتها البشرية يعرف طريقه جيدا ولا يحتاج مجرد النصيحة من أي كان. وفي ضوء تلك الاعتبارات والسمات الواضحة نقول ان الستار لم يسدل بعد علي النتائج النهائية حيث تبدأ الجولة الثانية والحاسمة لتحديد الشكل النهائي لمجلس الشعب القادم, ولذلك يكون من السابق لأوانه الحكم النهائي علي ما يثار من ملاحظات تأتي من هنا أو هناك وعلي لسان رؤساء الأحزاب المشاركة, ولكن الأمر المؤكد أن السقوط المدوي لأصحاب الأجندات المشبوهة التي حاولت طوال الفترة الماضية التمهيد لنشر الفوضي في ربوع البلاد لن يؤدي بها الي الاعتراف بالفشل, ولن تجد حمرة الخجل طريقا الي الوجوه التي ارتدت الكثير من الأقنعة لعلها تفلح في جذب الانتباه بعيدا عن المسار الصحيح للممارسة السياسية المقبولة والمشروعة. ونحن لا نتوقع ممن اعتادوا علي الخداع والتضليل الاعتراف بهزيمتهم أو القبول بارادة الناخبين وذلك لسبب بسيط وغاية في الوضوح, أنهم لم يكونوا يوما من أنصار الديمقراطية, ولم يعيروا اهتماما لمصالح مصر والجماهير, ولكنها شعارات يرفعونها ويتاجرون بها في أسواق السياسة, والمأزق الكبير الذي عليهم التعامل معه أنه لم يعد لهم مكان بعد انحسار العشوائيات السياسية.