علي هامش مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط, الذي اختتم دورته الثلاثين الاثنين الماضي, أثيرت مجددا قضية فلسطينيي48, وما إذا كان التعامل معهم وعرض أفلامهم تطبيعا من عدمه. وذلك بعد إعلان إدارة المهرجان عن مشاركة فيلم فيلا توما في المسابقة الرسمية, ووصف البعض له بأنه إسرائيلي, علما بأنه ليس إسرائيليا علي الإطلاق, كما سأوضح في السطور التالية. ورغم أن الفيلم, الذي أخرجته سهي عراف, وهي من فلسطينيي48, لم يعرض في المهرجان في النهاية, إلا أن المسألة تحتاج إلي توضيح, والكلام عنها يطول.. وأبدأه بأن الظروف لم تكن قد سمحت لي بمقابلة أحد من فلسطينيي48 حتي سافرت إلي مونتريال عام2009 لحضور الدورة32 من مهرجانها السينمائي الدولي, فأنا لم ولن أسافر إلي إسرائيل, وهم قليلو الحضور إلي مصر.. وعندما التقيت بالمخرج علي نصار في كندا, أدركت أن فلسطينيي48 مشكلة تمشي علي قدمين, ومأساة إنسانية بها من المضحكات بقدر ما بها من المبكيات. يقولون إنهم فلسطينيون, وهم فعلا كذلك, ولا يستطيع أحد أن ينزع عنهم هويتهم ولا أن يشكك لحظة في وطنيتهم.. لكن المشكلة أن جوازات سفرهم إسرائيلية, وكل تعاملاتهم- باعتبارهم مقيمين في أراض تخضع للاحتلال الإسرائيلي- تتم مع السلطات الإسرائيلية.. والمشكلة الأكبر أنهم حتي لو رضوا بالتعامل مع السلطات الإسرائيلية, وقنعوا بكونهم من رعاياها, فإن إسرائيل نفسها لا تعتبرهم مواطنين من الدرجة الأولي.. وكما تقول كل الدراسات والتقارير, وكما يؤكد كل الخبراء والمراقبين, فإن المجتمع الإسرائيلي يشهد تمييزا عنصريا كريها بين اليهود الغربيين وغيرهم من اليهود الشرقيين والأفارقة, ويضطهد بشكل خاص العرب الذين يكادون يكونون معزولين في قراهم, فالسلطات الإسرائيلية تعرف أنهم لن ينصهروا أبدا في المجتمع, وأن وجودهم بهذا العدد الكبير( ما يقرب من مليون و500 ألف نسمة), قنبلة موقوتة تهدد الدولة العبرية. في ذلك العام, حضرت مناقشة حامية بين نصار وسينمائي كندي حول الديمقراطية الإسرائيلية الشهيرة جدا في الغرب, انفعل خلالها نصار, وصرخ بأن ديمقراطية إسرائيل لا يعرفها سوي اليهود, وأن العرب والمسلمين لا يرون سوي الجانب الديكتاتوري الفاشي من الدولة التي يحملون جواز سفرها.. وباختصار فإن فلسطينيي48 تجسيد لوضع فريد علي مستوي العالم كله, فهم مواطنون في دولة لا يعترفون بها ولا تعترف هي بهم, يتمنون زوالها وهي تتمني زوالهم, وكلا الجانبين مجبر علي التعايش مع الآخر! الأهم أنهم خونة وعملاء في عيون الجميع, فالإسرائيليون يعتبرونهم خونة وعملاء للعرب, والعرب يعتبرونهم خونة وعملاء لإسرائيل لأنهم يقيمون فيها ويتعاملون مع هيئاتها ومؤسساتها! هذا هو حجم مأساتهم علي الجانبين السياسي والإنساني, أما علي الجانب السينمائي, فالمأساة أكبر.. فالمنتجون الإسرائيليون وهم الذين يملكون المال لن يقدموا أبدا علي استثمار أموالهم في فيلم لمخرج عربي, ليس فقط لأنهم يفضلون دائما دعم المخرجين اليهود, ولكن أيضا لأنهم يعرفون أن المخرجين العرب لن يتناولوا سوي القضايا العربية والفلسطينية, وهذه القضايا, فضلا عن أنها لا تتوافق مع اتجاهاتهم السياسية ولا تخدم أهداف إسرائيل, لا تحقق عادة إيرادات عالية في دور السينما الإسرائيلية, حيث أن أغلب روادها بطبيعة الحال من اليهود. الخيار الوحيد الذي يتبقي للمخرجين العرب في إسرائيل هو اللجوء لصندوق دعم الفيلم الإسرائيلي, وهو صندوق حكومي.. وأعرف أن البعض سيصرخ الآن قائلا: لكن هذه خيانة, وهذا بالضبط ما قلته للمخرج علي نصار حين قابلته في مونتريال, التي ذهب إليها لعرض فيلمه جمر الحكاية في المسابقة الدولية.. وكان رده علي أن إسرائيل لا تمنحه صدقة أو هبة, وأن المال الذي يحصل عليه ليس إسرائيليا, بل هو من حصيلة الضرائب والرسوم التي يسددها- هو وغيره من الفلسطينيين- للدولة الإسرائيلية. وأضاف أن هذا هو السبيل الوحيد لكي يصنع هو وأمثاله أفلاما, والبديل إنشاء صندوق لدعم المخرجين العرب, علي أن يساهم كل العرب- داخل وخارج إسرائيل- في تمويله, خاصة رجال الأعمال والأثرياء, وكثير منهم فلسطينيون.. وما إن انتهي نصار من طرح هذا الاقتراح- بحماس كبير وصوت عال- حتي انفجر كلانا في الضحك.. فنحن نعرف تماما أن الاقتراح وهمي, وأن رجال الأعمال العرب, الذين ينفقون الملايين علي المطربات المغمورات وراقصات الدرجة العاشرة, لن يدفعوا دولارا واحدا لدعم المخرجين الفلسطينيين في إسرائيل. وأري أنه إذا لم يدعم المخونون العرب المخرجين من فلسطينيي48 ماليا, فالأفضل أن يلتزموا الصمت التام. باختصار: إن كان الفيلم ينسب لمخرجه, فإن أفلام فلسطينيي48 تعد فلسطينية, خاصة أنهم فلسطينيون وطنيون, ولا يمكن أن يصفهم أحد بأنهم إسرائيليون رغم أنهم يحملون جوازات سفر إسرائيلية.. وإن كان الفيلم ينسب لجهة التمويل, فإن أفلامهم تتحول في هذه الحالة إلي أفلام إسرائيلية.. والمعروف أن آخر ما تعارفت عليه أوساط النقاد حول العالم أن الفيلم ينسب لمخرجه, نظرا لتعدد جهات الإنتاج في الفيلم الواحد إلي ما يصل أحيانا إلي خمس أو ست دول.. وبذلك يصبح فيلا توما فيلما فلسطينيا خالصا, ليس فقط لأن مخرجته سهي عراف فلسطينية, ولكن أيضا لأنه يناصر القضية الفلسطينية ويعارض وجود إسرائيل.