من يتابع التفاصيل المتعلقة بتفاعلات الصراعات الداخلية في ليبيا, سوف يدرك من الوهلة الأولي ان هناك قدرا كبيرا من التعقيدات والعوامل المتداخلة التي تلعب أدوارا أساسية في استمرارية الصراع, وارتفاع تكلفته من خلال تدمير مقدرات ليبيا وثرواتها وجعلها ساحة مفتوحة لصراعات إقليمية ودولية واستعمارية سابقة وكل ذلك علي حساب أبناء ليبيا بمختلف انتماءاتهم. غير أن كل هذه الاضطرابات في ليبيا تعود في الأساس إلي عوامل داخلية تجعل هذه الصراعات تتمدد وتتصاعد, وبعض هذه العوامل تاريخي مرتبط بأبعاد قبلية وثقافية, وبعضها إيديولوجي يتمثل في أصحاب التوجهات الإسلامية, والبعض الأخر خارجي سواء كان إقليميا مثل التدخل القطري التركي, أو دوليا يرتبط بحلف الأطلنطي والقوي الغربية بشكل عام. فمن المعروف أن تاريخ الدولة الليبية ككيان موحد يعد تاريخا حديثا, حيث كانت ليبيا تحكم كولايات ثلاث منذ العهد العثماني وهي ولايات طرابلس وبرقة وفزان, ولم يتم توحيد هذه الكيانات إلا في عام1951 لكي تنشأ المملكة الليبية المتحدة, تحت قيادة الملك إدريس السنوسي. في تلك الفترة كانت المملكة الليبية ذات نظام فيدرالي, أي أن كلا من الولايات الثلاث لها قدر من الحرية النسبية في إدارة شئونها الداخلية, إلي أن تم تحول ليبيا إلي دولة موحدة في عام1958 بتأثيرها من عوامل عدة من بينها مصالح الشركات النفطية التي رأت أن النظام الفيدرالي يعوق مصالحها. في الوقت الحالي عاد الصراع القديم يتجدد بين شرق ليبيا وغربها, بل يمكن القول: إن هذا الصراع ظل قائما, طوال حكم القذافي, وكان التعبير عنه يتم بصوت خافت, غير أن هذا الانقسام بين شرق وغرب ليس هو وحده من يشغل الساحة الليبية, فهناك أيضا قبائل التبو في الجنوب التي أثارت بعض الاضطرابات وتتحرك في منطقة ذات حدود مفتوحة مع دول الساحل الإفريقي في تشاد ومالي والنيجر وكلها تعج بالحركات المسلحة المتشددة. يتداخل مع هذا الصراع, الصراع بين القبائل الكبيرة في ليبيا مثل ورفلة وغيرها التي أصبح بعضها مرتبطا بمدن بعينها, فنسمع في الأخبار عن قوات الزنتان ومصراته. وهذه المدن في الحقيقة أصبحت تعبر في الغالب عن قبائل محددة تكون لها الغلبة في الميليشيات الخاصة بهذه المدن. أما الصراع الأيديولوجي فنجده متمثلا بشكل واضح في الانقسام بين فريقين كبيرين احدهما يمثل التيار الإسلاموي علي اختلاف مسميات الفصائل المنضوية تحت لوائه, وموقعها من الدعوة للعنف أو اتخاذه منهجا كما يفعل أنصار القاعدة وحلفاؤهم, أو التدرج والتخفي والتمويه مثل الإخوان المسلمين. وعلي الجهة الأخري نجد ما يطلق عليهم الليبراليون الذين حققوا في الانتخابات الأولي والثانيةنسبا متفوقة. ولكنهم لا يمتلكون العتاد والتسليح الكافي لمواجهة التنظيمات المتطرفة ومن يساندونها مثل قطر وتركيا. وهذا الانقسام يجد التعبير عنه في القتال بين مسلحي( فجر ليبيا) المتشددين, ومسلحي( عملية الكرامة) التي يقودها خليفة حفتر. ونشير هنا إلي صراعات وتقسيمات اخري مثل الفيدراليين في الشرق من سكان المناطق الغنية بالنفط الذين لا يريدون اقتسام عائدات النفط مع غيرهم ويطالبون في أحسن الأحوال بأن تكون للدولة ضريبة فقط علي النفط دون سيطرة عليه, بالإضافة إلي بعض المطالب المرتكزة علي الانتماءات العرقية التي تظهر من حين إلي آخر وتؤثر في المواقف السياسية وأيضا في سير الأحداث, مثل مطالب الأمازيع الذين يعتبرون أنفسهم السكان الأصليين لليبيا, وقبائل التبو السوداء في الجنوب, وكلاهما لا يتقبل الصبغة العروبية لليبيا. وعلي ذلك فإن الدعوات التي ترتفع بين حين وآخر للتدخل في ليبيا يجب أن تتحلي بالصبر والتريث, فرغم أن اضطراب الأوضاع في ليبيا قد تحول إلي مهدد للأمن القومي المصري, فإن أي تدخل مصري مباشر سوف يستنزف قدرات الجيش المصري في مستنقعات حرب العصابات والمجموعات الإرهابية, الأمر الذي من الواضح أنه أصبح يمثل هدفا في حد ذاته لكثير من القوي الإقليمية والدولية التي تقف موقفا عدائيا من ثورة30 يونيو التي أجهضت أحلام وطموحات الكثيرين.