لاتزال حدود ليبيا تشوبها الفوضي الي حد كبير, كما يشكل تأمين الأطراف أحد أكبر التحديات التي تواجهها البلاد ويتيح ضعف مراقبة الحدود لأسواق السلاح والبشر والمخدرات ازدهارهما, إلي جانب عمليات الاتجار غير المشروع اليومية بالوقود والبضائع, مع مايترتب علي ذلك من عواقب وخيمة علي المنطقة ككل.ولكن تتمكن ليبيا من وضع استراتيجية فعالة لأمن الحدود عليها القيام بما لم تقم به أي حكومة ليبية من قبل,وهو تفكيك شبكة المصالح الاقتصادية والمحلية التي تغذي انعدام أمن الحدود. هذا مايؤكده المؤلف بيتر كول في دراسته حول تأمين حدود ليبيا, والتي خلص من خلالها الي ان الحكومة الليبية تواجه قضيتين شائكتين تتعلقان بتركة النظام السابق مابين منطقة جنوبية مهملة اقتصاديا واجتماعيا يعتمد سكانها الي حد كبير علي التجارة عبر الحدود لتأمين معيشتهم, وقطاع أمني متهالك يفتقر الي التنسيق المركزي الواضح والمعدات والروح المعنوية. كذلك تشكل المجتمعات المحلية التي تعيش في البلاد من العرب والبربر وجنوب الصحراء الكبري أحد مصادر انعدام أمن الحدود, فالتهميش الذي تعرضت إليه هذه المجتمعات المحلية العابرة للحدود لفترة طويلة علي يد الدولة دفعها الي إنشاء شبكات من التبعية مع امتداداتها في الدول المجاورة التي تسهل عمليات الإتجار غير المشروع. وبالنسبة للجماعات المسلحة العاملة في المناطق الحدودية, تعتبر العلاقات القبلية أقوي من ثقتها بالحكومة الجديدة أو ولائها لها, كما قامت الدوائر الحكومية والكتائب الخاصة العاملة باسم الدولة, والتي تفتقر الي التنسيق فيما بينها علي ايجاد تسويات يشوبها الارتباك في محاولة للسيطرة علي البلدات والمواقع الحدودية الليبية, إلا أن العلاقة فيما بينها غالبا ماتتسم بالتنافس, لا التعاون. يؤكد المؤلف علي ان توفير تنسيق أفضل داخل مؤسسات الدولة يمثل خطوة أولي حاسمة يجب علي الإدارات التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع العمل معا لتأمين حدود ليبيا, وينبغي تحديد الصلاحيات داخل وبين الإدارات بشكل واضح, وكما يتعين علي وزراء الحكومة البدء في التعاون علي المستوي التنفيذي, وتنسيق السياسات والممارسات علي نحو أفضل بين المدن والمراكز الحدودية. ويقول المؤلف: يجب علي الدولة التغلب علي استقلال الكتائب علي الحدود لأنها مشكلة سياسية جوهرية تحتاج الي ماهو أكثر من مجرد كبح جماح الكتائب, حيث يجب علي الدولة أيضا القيام بإصلاح حقيقي وتطوير مؤسساتها الأمنية لاستعادة ثقة واحترام الكتائب. كذلك يجب علي الحكومة اتخاذ خطوات جريئة لدمج القبائل المهمشة في المجتمع الليبي وإزالة الحوافز الاقتصادية التي تدفع القبائل المحلية الي البحث عن دخل من خلال التجارة العابرة للحدود, وذلك عبر تحفيز التنمية المحلية ومعالجة المظالم الاجتماعية وهو ما يتطلب إنشاء المزيد من المؤسسات الحكومية القوية في جنوب وشرق ليبيا. الصراعات الحدودية الليبية أدي سقوط نظام القذافي الي نشوء أزمة دائمة فيما يتعلق بضبط المناطق الحدودية الشاسعة لليبيا. وبعد نحو عام من انهيار النظام, لاتزال مساحات واسعة من الأراضي علي طول الحدود الليبية البالغ طولها4300 كيلو متر, من نواح عدة, غير مضبوطة وربما غير قابلة للضبط. وخارج المراكز السكانية, لم تتمكن القوات المسلحة الليبية من السيطرة علي الهجرة والتهريب الذي يتدفق عبر البلاد. ويوضح المؤلف انه مع انهيار الجيش وقوات الشرطة إبان الاقتتال الذي شهدته ليبيا خلال2011, حلت مكانهما أعداد كبيرة من الجماعات المسلحة, التي تصف نفسها بالكتائب التي تعمل باسم ثورة17 فبراير, وبما أن العديد من هذه الجماعات لم يشارك علي نحو واسع في القتال ضد قوات القذافي, فإن ولاءها بالكاد كان يتعدي القبائل التي جاءت منها, وهذا كان واضحا بشكل خاص في المناطق الحدودية الليبية, التي كانت بعيدة عن المعاقل الثورية في بنغازي ومصراته والجبال الغربية, تسبب الفراغ في السلطة في نشوب صراعات محلية للسيطرة علي المراكز الحدودية والتجارة عبر الحدود بين القبائل المتنافسة وأيضا بين الحكومة المركزية والعديد من الكتائب. وقد استولت الكتائب, التي جاء بعضها من قبائل نائية, لفرض رؤيتها الخاصة لوظائف الدولة علي مراكز حدودية من القوات المسلحة الليبية ووزارة الداخلية, ثم انخرطت في أنشطة مراقبة الحدود الخاصة بها.وفي أماكن أخري, تقوم القبائل الحدودية بالقتال من أجل السيطرة علي طرق التجارة أو فقط لانتهاز الفرصة لتصفية حسابات قديمة مع من يرون أنهم غير ليبيين أو من أنصار القذافي ورغم أن أعمال القتل تراجعت, إلا أن المدن الحدودية لاتزال في حالة من الصراع المجمد, حيث ينحصر دور الجيش الليبي في إدارة ومتابعة عمليات وقف إطلاق النار الهشة, ونتيجة لهذا الاقتتال, أصبحت بعض القبائل الحدودية الليبية, مثل التبور والطوارق وكلتاهما من المجموعات العرقية غير العربية التي تقطن جنوب الصحراء أقل ميلا من أي وقت مضي للثقة بالدولة أو التعاون معها فازداد التهريب غير المشروع, وأصبحت البلاد أكثر خطورة وعدم قابلة للتنبؤ علي صعيد المهاجرين والمتاجرين. عمليات التهريب يتسبب عجز ليبيا عن السيطرة علي حدودها في مشاكل كبيرة بالنسبة الي جميع جيرانها, فتهريب الأسلحة والبشر الذي يعبر الأراضي الليبية, يتدفق بحرية الي حد ما من جميع أنحاء المغرب العربي, وذلك بفضل الجماعات العرقية وعلاقاتها الوثيقة بشبكات الإجرام المنظم, والتي تعمل علي ربط المنطقة بعضها ببعض. وتبرز صعوبة هذا الوضع بشكل خاص في مالي, حيث يقوم متمردو الطوارق بالتحالف مع الجماعات المتشددة من أنحاء الساحل كافة باستخدام الأسلحة الليبية للسيطرة علي الجزء الشمالي من البلاد, كل هذا يؤثر سلبا علي أمن أوروبا أيضا, حيث تدخل البضائع المهربة والأشخاص الي دول الاتحاد الأوروبي نفسها.نظرا لعدم وجود حواجز مادية علي الحدود الليبية باستثناء البحر الأبيض المتوسط وحقول الألغام التي تمثل تركة الحروب التي خاضتها ليبيا مع تشاد في السبعينيات ومع مصر خلال الحرب العالمية الثانية ولأن الإمكانات التي سخرها القذافي للبنية التحتية والمراقبة كانت قليلة جدا فإنه لم يكن بمقدور الأجهزة الأمنية الليبية المختلفة سوي رصد, وليس منع, حركة الهجرة والتجارة عبر الحدود, لكن قدرتها علي القيام حتي بهذه الوظيفة تأثرت بالقضايا القديمة المتراكمة داخل قوات الأمن والتي لاتزال تعيق عملها حتي الآن. وبالتالي فإن القدرة علي الوصول إلي قواعد البيانات لوثائق السفر أو القوائم السوداء الدولية, علي سبيل المثال, كانت غير متوافرة في بعض الأحيان ونتيجة لذلك, كانت هناك أجنحة عدة للسلطة داخل كل مركز كانت المرافق تعاني من نقص شديد في الموارد, فقد كانت المراكز الحدودية أشبه بالأكواخ في بعض الأحيان, وتفتقر حتي الي الكهرباء. السوق السوداء الليبية السوق السوداء هي الأساس الذي يقوم عليه الاقتصاد الليبي المحلي, الذي يتمتع بجذور أعمق بكثير من جذور الدولة الليبية نفسها. وفي الواقع فإن منظومة القوانين المعمول بها في ليبيا حتي الآن لاتجرم بشكل واضح بعض جوانب اقتصاد الإتجار كما أنها لاتلتزم بشكل كامل باتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية, وخاصة فيما يتعلق بالتواطؤ مع السلطات المحلية. في جميع أنحاء دولة القذافي, كانت هناك مجموعة من الحوافز التي تدفع الجهات الفاعلة من طبقات المجتمع كافة تقريبا الي المشاركة في السوق السوداء. وكان الوضع الاجتماعي والاقتصادي لقبيلتي التبو والطوارق, علي وجه الخصوص, هو الذي سهل مثل هذه الأنشطة فقد كانت هاتان القبيلتان تقيمان علاقات اجتماعية وتزاوج مع أقاربهما من العشائر الأخري في مختلف القبائل والبلدان, الأمر الذي أدي إلي تعزيز أواصر الصلة مع أولئك الأقارب في تشاد والنيجر ومالي والجزائر وموريتانيا. وكان التبو والطوارق يتنقلون بانتظام عبر الحدود لزيارة أقاربهم ونقل قطعان الماشية للرعي أو للبيع, وبهذا الشكل كان طبيعيا أن يتجنبوا المرور عبر المعابر الحدودية الرسمية, وذلك لتجنب التأخير لبضعة أيام وفيما يخص بعض أعضاء هذه الجماعات, وكذلك القبائل العربية, مثل أولاد سليمان وورفلة, التي كان لها أقارب أيضا في جميع أنحاء الساحل, فإن هذا النوع من التنقل تحول بسهولة نسبيا إلي نقل للبضائع ذهابا وإيابا. بشكل عام يكون لدي المراكز الحدودية علم بهذه التنقلات, وفي أغلب الأحيان لاتكون الممرات غير القانونية بعيدة عن الطرقات الرسمية أو المراكز الحدودية. وهكذا حظي الاقتصاد غير الرسمي باعتراف مسئولي الحدود, الذين قاموا حتي بتنظيمه, لكن من دون السيطرة عليه, كان بعض المسئولين يستفيدون من العمولات في حين كان السكان المحليين يستفيدون من العبور السريع للبضائع. كان اقتصاد الاتجار بالبشر يتمتع هو الآخر بأرضية راسخة, فكان يشكل مصدرا للدخل من خلال التعرفة الجمركية الي جانب كونه مجمعا للأيدي العاملة ومصدرا حتي للمتطوعين في جيش الدولة. في السابق كان المتاجرون بالبشر يستخدمون بعض الطرقات التي تعتبر أكثر رسمية واستخداما من غيرها للدخول إلي ليبيا. ويؤكد المؤلف في نهاية الدراسة أن تأمين حدود البلاد الشاسعة يتطلب إصلاح القطاع الأمني وإضفاء الطابع الرسمي عليه, وكذلك الاستثمار في المعدات والتدريب والبنية الأساسية لمراكز الأمن الحدودية, كما أنه من المهم إصلاح النظام الإداري في البلاد, بحيث يمكن وضع حدود واضحة للسلطة داخل وبين الإدارات لأول مرة, ويمثل مشروع صياغة الدستور الذي توشك ليبيا علي الانخراط فيه فرصة ممتازة لتوضيح حدود السلطة علي المستوي الوزاري وإنشاء المؤسسات الضرورية الجديدة. كذلك ينبغي أن يكون الهدف النهائي لليبيا هو أن تقوض وتلغي بحزم الحوافز الراسخة للانخراط في النشاط غير القانوني أو شبه القانوني عبر الحدود, وهو ما لايمكن تحقيقه إلا من خلال خلق جنوب مستقر وتطوله التنمية الاقتصادية.