توالت المؤتمرات اليومية في محاكم القاهرة وفي غرفات واستراحات المحامين وفي مقر النقابة العامة.. ولا أظنني مغاليا إذا قلت أن هذه المؤتمرات أحدثت استنفارا للمحامين من كل الجهات والتوجهات وفي ذات الوقت قمنا بتشكيل فريق عمل كنت أحد أفراده ويضم محمد طوسون وأحمد ربيع وإبراهيم بكري وبهاء عبدالرحمن وكانت مهمة هذا الفريق الاتصال بكل الناشطين من القوي السياسية ومن النخب الوطنية من المحامين ومن غير المحامين والترتيب معهم من أجل دعمنا في قضيتنا.. قضية إخواننا المحبوسين.. واحر قلباه عليهم. وجاء يوم تجديد الحبس وتجمهر خلق كثيرون أمام مقر النيابة وازدحمت ردهات النيابة بعشرات من المحامين.. وعشرات من الصحفيين.. وعشرات من نشطاء حقوق الإنسان.. كان أحمد نبيل الهلالي يقف مع حمدين صباحي وبجوارهما منتصر الزيات ومعهم عبد العظيم المغربي من اتحاد المحامين العرب والدكتور إبراهيم صالح وأحمد عبد الحفيظ وكامل مندور وسيد شعبان وسامح عاشور.. الكل علي قلب رجل واحد.. الكل يتأهب تلك اللحظة التي سيدلي بدفاعه فيها عن مختار ومن معه.. كانت كلمات الأستاذ رجائي الواثقة التي همس بها في أذاننا قبل بدء الجلسة تبعث قدرا من الاطمئنان في أفئدتنا وكأنها نبوءة: اطمئنوا فكل شيء علي مايرام واليوم سنحقق مبتغانا إن شاء الله. توالت الأفكار علي خاطري تمور بالمشاعر بعد إذ سمعت نبوءة رجائي.. هل كانت نبوءة أم رجاء؟ هل كان حلما فخاطرا فاحتمالا؟ وهل تتحقق النبوءة في زمن انقطعت فيه المعجزات؟ ليس من المستطاع أن يتحول الحلم إلي حقيقة بمجرد التمني.. وهل تؤخذ المطالب بالتمني أم أنها تؤخذ غلابا.. هل يصدقنا رجائي ويكون قد بذل جهدا سياسيا أم أنه يراهن علي جهده القانوني؟! الكل يعلم أن مسألة القبض علي تلك المجموعة لها جوانبها السياسية التي تقف علي تخوم الجوانب القانونية فإلي أين سيذهب بنا رجائي؟ انقطع حبل افكاري حين بدأت جلسة التجديد, وحين النداء علي القضية ازدحمت غرفة التحقيق التي مثل فيها مختار حتي أننا جميعا وقفنا متراصين كالموج المتلاطم إذ لا مكان يتسع لجلوس أحد وترافع يومها عن نوح اكثر من عشرين محاميا يتقدمهم رجائي عطية وكذلك كان الأمر بالنسبة لخالد بدوي... وبعد انتهاء المرافعات وقفنا في طرقات النيابة وقلوبنا تخفق بالرجاء وتنبض بالتمني ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.. خرج القرار باستمرار الحبس لمدة خمسة عشر يوما أخري, وحين بحثت عن رجائي لم أجده حين رأيت الدنيا من حولي يزداد ظلامها تحدثت مع أحمد ربيع وبهاء عبد الرحمن واتفقت معهما علي أن نذهب إلي رجائي عطية في مكتبه لنقف علي خبر يقيني بشأن الإفراج عن إخواننا, ونظرا لأن بهاء يرتبط مع رجائي بروابط عمل فقد طلبنا منه أن يحدد لنا موعدا وعلي الفور أنجز بهاء مهمته وحدد الموعد, وفي الموعد المتفق عليه ذهبنا جميعا, وتصادف أن كان مع بهاء أخونا جمال برعي فذهب معنا.. وفي مكتبة الكائن بعمارة الإيموبيليا بشارع شريف جلسنا نتحاور معه.. كان جمال برعي حادا ومندفعا مع رجائي وقال له بالحرف: أنت وعدتنا كثيرا يا أستاذ رجائي ويجب أن تبذل جهدا كبيرا من أجلنا هذه المرة ليس من أجلنا ولكن من أجلك أنت.. من أجل مشروعنا المشترك, حاولت أن أخفف من حدة كلمات جمال برعي فقلت لرجائي: أذكر أنني سمعت يوما الدكتور القرضاوي وهو يتحدث عن العقلية الجمعية فقال إنه وهو بعد صغير اشترك في مظاهرة وعندما أمسك أحد المتظاهرين حجرا وقذف به واجهات المحلات فعل كل المتظاهرين مثل ذلك وكان من عجبه أ انحني هو الآخر وأمسك مثل الجميع حجرا وفعل مثلما فعلوا.. وأنا أخاف أن يغضب أحد إخواننا من المحامين من استمرار حبس مختار وخالد فيمسك حجرا ويقذفه علي مشروعنا الذي بنيناه معا, وحينئذ أخاف أن يفعل مثله باقي الإخوان فيقفون ضدك في الانتخابات.. يجب يا أستاذنا الفاضل أن تبذل كل ما تستطيع.. نحن نحبك ونتمني أن يقف كل صفنا معك. فأجاب رجائي بأنه يبذل كل الجهد وأنه تحدث مع شخصيات سياسية كما تحدث مع النائب العام وأن أمر الإفراج تأخر ولم يحدث في الجلسة الماضية نظرا لأن تقرير خبير الأصوات عن التسجيلات الصوتية للحوارات التي كانت تدور بين المقبوض عليهم في الاجتماع التنظيمي لم يكن قد تم الانتهاء منه بعد وأنه حتما سيتم الإفراج عنهم في الجلسة القادمة خاصة وأن تقرير الخبير علي وشك الانتهاء.. ثم وجه رجائي حديثه لجمال برعي وقال له يا أخ جمال أنت في بني سويف ولا تعلم ما أفعله أنا من أجل مختار وخالد وإبراهيم الرشيدي, وبدلا من أن تلومني أنا وجه اللوم لمختار وخالد.. أيعقل هذا يا جمال يا برعي!! ما الداعي لكي يحضر مختار اجتماعا تنظيميا في هذه الأيام؟!!. وهنا تدخل أحمد وقال: يا أستاذ رجائي هذا اجتماع لقسم المهنيين وكان يناقش أمر خطتنا الانتخابية.. كنا نريد أن نحصل منهم علي موافقة نهائية بعدد المرشحين الذين سيمثلون الإخوان. أكمل بهاء عبد الرحمن كلام أحمد وقال وهو يضحك ضحكته المعروفة عنه: عموما ربنا ستر كنت أنا وأحمد ربيع في طريقنا لحضور هذا الاجتماع لكن تم القبض عليهم قبل أن نذهب, أنا عن نفسي اختبأت عند مترو الأنفاق, كانت مسئوليتك ستتضاعف لو تم القبض عي نظرنا إلي بهاء ونحن نزجره بعيوننا واضطررت إلي مقاطعته وقلت لرجائي: لو سمحت يا أستاذ رجائي لو يساعدك في مفاوضاتك أن ننسحب من هذه الانتخابات كلها بحيث لا يكون لنا فيها لا ناقة ولا جمل فسنفعل. فوجيء رجائي بكلامي ويبدو أنه فهم منه أننا سننسحب وسنترك الانتخابات كلها بما يعني أننا لن نقف معه فكاد أن يقفز من مقعده وقال: لا لن تصل الأمور إلي مثل هذا أنا لا أقبل انسحابكم وسيخرج مختار حتما.. في الجلسة القادمة سيخرج. إلي العسكرية تحتاج هذه الفترة إلي كتاب مستقل يحكي ويغوص ويحلل, فلا يمكن أن تحيط بها هذه السطور أو تفصل أحداثها أو تحلل لها ولكنها قد تستخرج أهم وقائعها لتبعث فيها الحياة من جديد فتبوح لنا بأسرار مخبوءة تكاتف الكثيرون علي طمسها.. وإذ كنت أقلب باقي صفحات الكراسة وجدت هذه الفقرة المهمة لعلها تكون خير شاهد علي ما حدث آنذاك, أو بالأحري لعلها تلقي الضوء علي أيام أراد لها البعض أن تذهب طي النسيان. نحن الأن في شهر نوفمبر من عام1999 والأيام تمر بطيئة وكأنها لا تمر.. في هذه الأيام نسيت مكتبي ونسيت أعمالي, وغبت عن زوجتي وعن أبنائي قرة عيني مرام ويحيي, فأنا أعتبر نفسي في مهمة إسلامية.. وهل هناك أعلي قيمة من رجل يبتغي وجه الله في إخوانه فيكون لهم وجاء من غوائل الأيام.. كان الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه.. أنصر أخاك ظالما أو مظلوما.. وأنا أنصر أخي المظلوم.. أنا في عبادة مستمرة في هذه الأيام وأرجو من الله سبحانه وتعالي أن يأجرني عليها وتكون بابي إلي الجنة.. لا توجد بوادر تنبيء عن قرب الإفراج عن مختار وخالد وإبراهيم بل العكس هو الصحيح.. هل رجائي يصدقنا؟ أخاف من طريقته معنا.. أشعر أنه يصب الماء البارد علي نارنا المشتعلة حتي نهدأ.. أنا أحب رجائي جدا وأحترمه كرجل قانون وكمفكر بارز وأتمني أن يكون نقيبا للمحامين وأن يكون زوال الغمة علي يديه.. يا رب كن معنا وساعد رجائي في سعيه وبارك له في هذا السعي واجعله في ميزان حسناته. اليوم هو الخميس وقد حدث شيء غريب.. كنا في مؤتمر بمحكمة شمال القاهرة.. ألقيت كلمة وسط عشرات من المحامين لدفعهم إلي اتخاذ موقف حاسم يعيد للمحاماة أيام مجدها.. ذكرتهم بموقف مختار في حادثة مصرع المحامي عبد الحارث مدني وقلت لهم إما أن نكون أو نظل عشرات السنين تحت رحمة السلطة التنفيذية.. كان بعض المخبرين من جهاز أمن الدولة يجلسون وسط المحامين ويسجلون كل كبيرة وصغيرة وحين خرجت إلي موقف سيارات المحكمة لأركب سيارتي وجدت السايس عم أبو زهرة يسرع إلي السيارة ويفتح لي بابها وهو يهمس في أذني: يا أستاذ ثروت سلم لي علي الأستاذ مختار فكلنا نحبه ولن ننساه وربنا يخفف عنه.. أستاذ ثروت أريد أن أنقل لك خبرا مهما. قلت له خير يا عم أبو زهرة؟ قال والتأثر باديا عليه: أخبرني محمود الفقي مخبر أمن الدولة الذي كان يرصد مؤتمركم في المحكمة اليوم أن قرارا سيصدر اليوم بإحالة مختار وإخوانه إلي المحكمة العسكرية. نظرت إلي أبو زهرة بفزع وقتل له غير معقول.. هذا تخريف, محمود الفقي كان يعبث بعقلك.. لا تصدقه. وعندما ركبت سيارتي اتصلت هاتفيا بإبراهيم بكري وأخبرته بما أخبرني به أبو زهرة واتفقت معه علي أن نذهب إلي رجائي في أي مكان يكون فيه, وعندما اتصلنا برجائي وجدناه في محكمة دار القضاء العالي فذهبت إليه وأنا أقود السيارة بسرعة جنونية.. وحين التقيناه أنا وإبراهيم أخبرته بما وصل لي من معلومات فنظر لي وكأنه ينظر إلي رجل في عقله خبل وقال بابتسامة: مخبر وسايس يا ثروت.. سايس سيارات يهذي فتصدقه!!.. كنا نجلس في استراحة المحامين وكان يجلس بجوارنا أحد الأصدقاء من المحامين من غير الإخوان اسمه أحمد حلمي فقال هذا الصديق لرجائي: لن نخسر شيئا لو أجريت اتصالاتك لتسأل عن هذا الأمر.. افعل هذا حتي تطمئن قلوبنا. فأمسك رجائي هاتفه المحمول وأجري اتصالا أمامنا ثم خرج من الاستراحة لينفرد بمكالمته وبعد هنيهة عاد إلينا وهو يبتسم ابتسامة عريضة وقال بصوت جهوري ليسمعه كل المحامين الذين كانوا يجلسون بجوارنا: لم يحدث شيء ولم ولن تكون هناك إحالة للمحكمة العسكرية وسيتم الإفراج عن مختار وخالد وإبراهيم في الأسبوع القادم.. هذا خبر وليس أمنية. وفي أول الليل عقدنا أنا وأحمد ربيع وإبراهيم بكري اجتماعا مع محمد طوسون في أحد المقاهي بشارع الألفي بمنطقة وسط البلد حيث تناقشنا في كل الأحداث التي مرت بنا في هذا اليوم وأخبرناه بذلك الخبر المزعج الذي تسرب إلينا عن إحالة مختار ومن معه للمحكمة العسكرية وقلت له رد فعل رجائي فلم يعقب إلا بهمهمات وابتسامة ليس لها معني ثم انتهي الاجتماع قبل منتصف الليل بقليل, وفي الطريق إلي بيتي قمت بشراء كل الصحف اليومية والمستقلة التي ستصدر صباح الجمعة والتي تخرج طبعاتها الأولي في الليل, وفي غرفة المعيشة جلست أقرأ الصحف وأنا أتحدث مع زوجتي تارة وأدعو الله بصوت مسموع تارة أخري يا رب يكون خبر إحالة إخواننا للمحكمة العسكرية خبرا غير صحيح وعندما وقعت عيني علي إحدي الصفحات الداخلية بجريدة الأهرام وقعت عيني علي خبر صادم( إحالة قضية مختار نوح إلي المحكمة العسكرية).. أسكتتني الصدمة وحين سألتني زوجتي لماذا سكت قلت لها أنا الأن مثل ذلك التلميذ الذي أخذ يدعو الله قائلا يارب تكون باريس عاصمة لبنان, وعندما سألته أمه لماذا تدعو الله هذا الدعاء قال لها لأنني أجبتها هكذا في الامتحان.. ونحن مازلنا نصدق وعود الأستاذ رجائي رغم أنه صدر قرار بإحالة مختار ومن معه للمحكمة العسكرية, عرف هذا القرار السايس ومخبر أمن الدولة ولم يعرف به رجائي.. أظن أنهم يخدعونه... ويحك يا يوم الخميس ففيك تم القبض عليهم وفيك تمت إحالتهم للمحكمة العسكرية. حين أستعيد ذكري هذه الأيام يقفز الدم في شراييني قفزا حتي يكاد وجهي يصطبغ باللون الأحمر, ولم لا وقد كانت كل لحظة من لحظات تلكم الأيام تحمل خبرا أو حدثا.. أملا أو إحباطا.. خوفا أو تهورا.. وحين أمسك كراستي لأنقل منها أشعر كأن قلبي هو الذي يقلب صفحاتها فقد كانت هذه الكراسات بعضا من نبضي ومكنون ذاتي, وحين أدلف إلي تلك الكراسة التي استودعتها أحداث المحاكمة العسكرية فإنني أستعيد معها سراجا خافت الضوء من أحداث لم تزل بعض شفرات أسرارها في رحم الغيب... وإذ كنت علي وشك أن أطوي بعض صفحات الكراسة لأذهب إلي صفحات أخري وقع نظري علي سطور بهت مدادها ولكن أحداثها لم تبهت إذ مازال ماثلة في وجداني.. ولا أجدني في حاجة إلي كتابة مقدمة لهذه السطور ولكنني أنقلها هنا كما هي. نحن الأن في منتصف شهر نوفمبر, جلست لأكتب هذه الكلمات قبل منتصف الليل, أما في الصباح فقد كانت المحكمة العسكرية تنظر أمر تجديد حبس إخواننا من المحبوسين وكان الأستاذ رجائي عطية قد أخبرني وأخبر كل الإخوة أنه أجري اتصالات وأنهم حتما سيفرجون عن المحامين مختار وخالد وإبراهيم, وللأسف لم يتحقق وعده, هذا الرجل صادق, ليس عندي ذرة شك في أخلاقه فهو شخصية جديرة بالاحترام ولكنني أشعر أنه تنقصه الحنكة السياسية, ويبدو أن هناك بعض أفراد من المقربين من دوائر السلطة يكررون وعودهم له وهو لطيبته يصدقهم ولكن هل يجب أن نصدقهم أيضا؟ بعد جلسة تجديد الحبس التي انتهت قبل صلاة الظهر وقف الأستاذ رجائي علي باب المحكمة العسكرية بالحي العاشر وهو يبدي ألمه من قرار تجديد الحبس وكان يقف معه أحد المحامين من فريق عمله الانتخابي وهو الأستاذ مصطفي محمود المحامي الناصري وكان يقف معهما أيضا أحد المحامين من أصدقائي, وبعد انصراف الأستاذ رجائي جاء لي صديقي الذي كان يقف معهما وأخبرني أن مصطفي محمود كان يخفف عن الأستاذ رجائي حزنه فقال له( ولا يهمك يا أستاذ رجائي وحتي لو تم حبس مختار حبسا نهائيا فسوف يقف معك الإخوان والحذاء فوق رأسهم لأن منافسك هو سامح عاشور خصمهم التاريخي) ولما كنت لا أحب أن يكون الحذاء فوق رأسي فقد اصطحبت أحمد ربيع وإبراهيم بكري وذهبنا في أول الليل إلي مكتب رجائي وقلت له ما وصلني فأقر بحدوثه وقال إنه غير مسئول عن كلام مصطفي وأنه لا يقبل هذا الكلام ثم قال: حقك علي يا عم ثروت!! عدت إلي بيتي وأحاسيسي ثائرة ونفسيتي مهتاجة وحين هدأت أخذت أقرأ قصيدة هاشم الرفاعي رسالة في ليلة التنفيذ وقد هزتني أبياتها هزا وقد امتزجت معها من أول بيت الليل من حولي هدوء قاتل والذكريات تمور في وجداني إلي البيت الذي قال فيه: انا لست أدري هل ستذكر قصتي أم سوف يعروها دجي النسيان أم أنني سأكون في تاريخنا متأمرا أم هادم الأوثان.. وبعد أن قرأت القصيدة فكرت في إخواني المحبوسين, كنت كأنني أنا المحبوس لا هم, شعرت بالاختناق وكأن الهواء نفد من حولي ورغم إخفاء حالة الضيق والكدر التي انتابتني عن زوجتي إلا أنها شعرت بي فطلبت مني أن أعود لمصحفي وأقرأ بضع أيات من القرآن لعل الله يخفف عني ففعلت وقرأت واسترحت. عندما أتذكر تلك الأيام وأسترجع أحداثها أشعر وكأنها كانت حلما من الأحلام, وكأنني كنت بين اليقظة والمنام.. أحقا كان ما كان وحدث ما حدث؟ أفي تلك الحياة عشت ما سلفت أم أنني كنت آنذاك في زمن آخر وفي دنيا أخري؟ ولكني أفيء إلي يقظة فتحدثني نفسي أن أغلق صفحات كراستي, فاستعادة الأحداث وإن كانت لها قيمتها إلا أنها تنكأ جراحا وتستعيد مواجع أرقتني وأسالت مدامعي.. تلك المواجع التي أردتها أن تذهب أدراج النسيان.. ولكن وكأن تلك الصفحات التي أردت وأدها والتي تحتوي علي تاريخ كاد ينزوي, ترفض أن تنزوي, وها أنذا أعود إليها مرة أخري فأجدني أمام ذلك الحدث الذي أفردت له جزءا في الربع الأخير من تلك الكراسة. في اليوم التالي انعقد اجتماع للجمعية العمومية لمحامي الإخوان.. يحضر في هذه اللجنة رؤساء المكاتب الإدارية لمحامي الإخوان بالمحافظات وأعضاء لجنة السبعة المنوط بها إدارة المهنة.. جلسنا جميعا في مكتب بهاء عبد الرحمن بمنطقة عابدين وكانت بنود الاجتماع تدور حول وجوب انتخاب لجنة من بيننا تدير أزمة حبس مختار نوح وإخوانه من المهنيين ولها أيضا كامل الصلاحيات في إدارة انتخابات المحامين بحسب أن الانتخابات تعتبر جزءا من الأزمة وسببا في حبس مختار ومن معه, كنت في هذا اليوم أبدو شارد الذهن وفي الحقيقة أنني كنت أكاد لا أسمع كلمة واحدة مما قيلت, حتي أنني لم أشترك في الحوار الذي كان يدور بين الإخوة والتزمت الصمت طوال الجلسة وقد آثار صمتي دهشة أحمد ربيع وظن أنني مريض ولكنني كنت في أشد الحاجة إلي الانكفاء علي نفسي وتدوير الأفكار في عقلي.. كنت أمارس مع نفسي عصفا فكريا.. وحين انتبهت وعدت من خلوتي النفسية وجدت الانتخابات قد بدأت ورغم أنني أعطيت صوتي لأحمد ربيع إلا أن أحمد أعطاني صوته وكانت النتيجة هي انتخابي بالإجماع عدا صوتي رئيسا للجنة وانتخاب عدد من الأعضاء معي هم أحمد ربيع وإبراهيم بكري وبهاء عبد الرحمن وجمال حنفي ممثلين للقاهرة وعدد آخر من الإخوة ممثلين لبعض المحافظات. وبعد أيام من هذا اللقاء كان من المقدر أن نذهب للقاء المستشار مأمون الهضيبي لمناقشة خطة الانتخابات الجديدة وكنت قد تخلفت عن هذا اللقاء إلا أن الإخوة الذين حضروا وعلي رأسهم أحمد ربيع أخبروني أنه حدثت مشادة بين أحمد والمستشار الهضيبي وكان سبب هذه المشادة هو رغبة المستشار في ترشيح الأستاذ أحمد سيف الإسلام حسن البنا لعضوية مجلس النقابة وتغيير الخطة من المشاركة إلي المغالبة وقد اعترض أحمد لأن أحمد سيف لم يحصل في الانتخابات الداخلية بيننا إلا علي صوت واحد, وبعد هذا اللقاء صدر قرار من المستشار الهضيبي بعزل أحمد من رئاسة القسم وتعيين محمد طوسون بدلا منه والاكتفاء بعضوية أحمد في لجنة الانتخابات.. وأصبح طوسون رئيسا للقسم.. وصرت أنا مسئولا عن إدارة لجنة الأزمة ولجنة الانتخابات. بدأنا عملنا في لجنة إدارة الأزمة.. كنا مجموعة من الرفاق.. اجتمعنا علي عمل لله.. من أجل نصرة مظلوم.. تعاهدنا من أول لحظة أن يكون الإخلاص سبيلنا والمحبة زادنا والإخوة في الله هي صلتنا.. وكان أول تحرك لنا هو السعي لإقامة علاقات طيبة مع الإعلاميين والصحفيين وبالفعل تعرفت علي عدد كبير من الصحفيين من الذين كانوا علي خلاف مع الإخوان ولكني وجدتهم من أفضل الناس خلقا بعد أن كنت أظن أنهم أكبر خصوم للحل الإسلامي, ومن عجبني أنني لاحظت أن هؤلاء قد يكونون أكثر تدينا وإيمانا من بعض الإخوان المسلمين, وكان أن أقمت صلات طيبة بالمسئولين في إذاعة لندن وغيرهم من الإعلاميين من كل التوجهات, كان مظهرنا نحن أعضاء لجنة إدارة الأزمة شبيها بالمقاتلين في معركة حربية.. واصلنا الليل بالنهار وتحركنا علي كل الأصعدة وقمنا بتحريك الرأي العام بقوة ناحية التعاطف مع قضية النقابيين المحبوسين والحالين للقضاء العسكري, وفي سبيل تحركاتي الإعلامية قمت بتجهيز ملف كامل لكل أخ من المحبوسين يحتوي علي السيرة الذاتية له وبهذه الملفات وببعض بيانات نارية عقدنا مؤتمرات صحفية لدعم القضية إعلاميا... ولكن رغم كل ما بذلناه مازال مختار محبوسا يرسف في أغلاله الكئيبة, وما زال خالد بعيدا عن بيته وأهله, وضاعت علي إبراهيم الرشيدي فرصته في العودة لعمله في الخليج الذي كان في اجازة منه. أقفز علي الصفحات وأطوي بعضها وأتجاهل عشرات الأحداث والتفصيلات إذ لو تركت نفسي لها لأفردت لها كتابا كاملا وقد أفعل ذات يوم فهي أحداث جديرة بالتسجيل والرصد والتحليل, إلا أن آخر صفحات تلك الكراسة يستوقفني منها ويشد نظري تلك الفقرات. ليس هناك أشد وطأة علي النفس من ظلم لا تستطيع دفعه, وليس هناك أشد علي الإنسان من تنكر له وقت محنته, وفي المحنة ظهرت معادن الناس وانكشفت معادن الإخوة, في أحد اللقاءات همس بعض الإخوان في أذني أن أحدهم سجد لله شكرا حين تم القبض علي مختار وخالد, كان أحدهم هذا من أكثر الأشخاص حربا علي إخوانه المحامين وفرحا حين تم فرض الحراسة علي نقابتنا, أما الشماتة فقد كانت بادية في عيون البعض تكاد تخرج لنا لسانها, وقد تقابلت مع الكثير من الإخوة الذين أعلم حسن طويتهم ولكن أحزنني منهم عدم المبالاة بما حدث وكأن من تم القبض عليهم لم يكونوا أخوة لهم. اليوم كان قد انعقد اجتماع إخواني لمناقشة بعض ترتيبات المحكمة العسكرية وكيفية مواجهتها وقد شق علي كلمة خرجت من فم الأخ أسامة محمود حين قال لي: أنت مهتم بشكل مبالغ فيه بموضوع حبس مختار وخالد.. يا ثروت يجب أن تعلم أن الحبس في السجون هو معسكر من معسكرات الإخوان ولا ينبغي أبدا أن يشغلك بهذا الشكل.. نظرت إلي أسامة بخيبة أمل ولكنني لم أرد عليه. عندما أتيحت الفرصة لزيارة الأخوة في محبسهم في سجن طرة لم أتركها فقد صرت الزائر الوحيد الذي يقوم بالزيارة كل يوم بحيث لم أفوت إلا أيام الجمع والاجازات, وكانت هذه الزيارات فرصة سانحة نتناقش فيها في كل شيء يتعلق بالقضية سواء من حيث القانون أو من حيث السياسة, وعندما تم تحديد الجلسة الأولي التي ستبدأ فيها المحاكمة قمنا بتوزيع أنفسنا كمحامين علي الأخوة المتهمين وكان من نصيبي بطبيعة الحال عبء المرافعة عن مختار وخالد وإبراهيم الرشيدي, أما رجائي عطية فقد اتفقنا معه علي أن يترافع في الشق العام للقضية. في أول جلسة من جلسات المحكمة العسكرية التي انعقدت هناك في صحراء الهايكستب كانت الإجراءات الخاصة بدخول المحامين والأهالي تسير علي قدم وساق وكانت هناك حالة ارتباك وتدافع فقد كان من المقرر أن نقدم بطاقات تحقيق الشخصية علي البوابة وننتظر إلي أن تأتي لنا حافلة تابعة. للقوات المسلحة فتقلنا إلي الداخل, ونظرا لحالة الزحام الشديد فقد توقفت الحافلات ورفضت نقل هذه الأعداد الغفيرة إلا إذا سمح رئيس المحكمة بذلك, وحين كنا ننتظر وصول موافقة رئيس المحكمة لمحت عن بعد الأستاذ محمد علوان وكان معه الدكتور توفيق الشاوي فذهبت إليهما مرحبا ومن أسف أن معظم الحاضرين لم يعرف الدكتور توفيق ولكنني عرفته فقد سبق وأن ذهبنا إليه مع مختار في الأيام الخوالي ثم بعد حبس مختار ذهبت إليه استشيره وأستنبت منه الرأي السديد في كيفية مواجهة هذه القضية.. ونظرا لأن الرجل كان قد اقترب من الثمانين فقد طلبت منه أن يجلس في السيارة التي حضر فيها برفقة الأستاذ علوان, وعندما طالت الإجراءات انصرف علوان والشاوي وقبل أن يودعاني طلب مني الدكتور الشاوي أن أذهب إليه في بيته لأخبره بتفصيلات ما حدث في الجلسات ووعدته بأنني سأتصل به لأحدد معه موعدا أذهب إليه فيه. وفي صفحة أخيرة من تلك الكراسة كانت هذه الفقرة. يسكن الدكتور توفيق الشاوي في فيلته الأنيقة الرابضة علي كورنيش النيل بالمعادي وإذا جلست في حجرة الصالون فستجد الحائط يزدان بعدة صور لأشخاص لهم تاريخهم, وكانت الصورة التي لفتت نظري هي صورة علامة القانون المرحوم عبد الرزاق السنهوري.. كنت قد ذهبت للدكتور الشاوي وفقا لموعد اتفقنا عليه في اتصال هاتفي وكنت قد استأذنته في أن أصطحب معي في هذا اللقاء الأخ أحمد ربيع وقد رحب الرجل أيما ترحيب. وحين دخل الدكتور الشاوي علينا وجدني أتطلع لصورة السنهوري فقال لي بعد أن رحب بنا: هل تعلم أن السنهوري رحمه الله حصل علي دكتوراه في فقه الخلافة, وكان قبلها قد حصل علي دكتوراه في القيود التعاقدية علي حرية العمل.. فقلت له: أنا أعلم عن رسالته في فقه الخلافة وأظن أنه كتبها بعد إلغاء دولة الخلافة الإسلامية وكانت رسالة رائدة. وتدخل أحمد ربيع في الحوار وذكر أنه بهذه المثابة تكون هناك علاقة فكرية بين الشهيد حسن البنا والمرحوم السنهوري فهذا أنشأ تنظيما ليستعيد الخلافة وذاك حصل علي دكتوراه في فقه الخلافة. وبعد أن شرحت للدكتور الشاوي تفصيلات قضية مختار التي أطلق عليها الإعلام قضية النقابيين وحكيت له عن مرافعة الأستاذ رجائي عطية والحادث الذي وقع له بعد مرافعته والشكوك التي دارت حول هذا الحادث وزيارتي له في المستشفي حيث التقيت هناك بشخصيات سياسية كبيرة, وحكيت له أيضا عن تفصيلات مرافعتي عن مختار وخالد وإبراهيم الرشيدي التي استمرت أكثر من ثلاث ساعات وتحاورت معه في الدفوع القانونية التي أبديتها أثناء المرافعة وطلبت البراءة بناء عليها.. كما حكي أحمد ربيع عن مرافعته التي أبداها عن بعض الإخوة ودفوعه القانونية, وأثناء حديث أحمد تطرق إلي الخلاف الذي كان قد نشب بينه وبين المستشار الهضيبي وأسهب في أن المستشار الهضيبي أراد أن يتراجع عن الشوري التي أجريناها بخصوص عدم ترشيح أحمد سيف الإسلام حسن البنا وكانت حجته وقياسه في ذلك هو موقف الرسول صلي الله عليه وسلم عندما رفض قتل المنافقين وقال( حتي لا يقال إن محمدا يقتل أصحابه) فقال له أحمد( إن هذا قياسا فاسدا لأن القياس الصحيح هو قول الرسول صلي الله عليه وسلم( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) واسترسل أحمد شارحا غضبة المستشار الهضيبي تجاهه والآثار التي ترتبت عليها, وهنا قال الدكتور توفيق الشاوي: رشد أي تنظيم أو جماعة أو مجتمع إنما يستمد من عدة قيم هي الحرية والشوري والعدالة والمساواة واقرأ إن أردت ما كتبه أخي الدكتور سليم العوا عن هذه القيم في كتابة القيم في النظام السياسي للدولة الإسلامية, وليس عندي شك أن قياس المستشار هنا قياس فاسد وقياسك هو الأصح وأنا أري أن جماعة الإخوان تفقد بعض رشدها حين تضرب صفحا عن الشوري والمساواة وقد عرفت تفصيلات الخلاف الذي شجر بينهم وبين مجموعة حزب الوسط وقد أفزعني رد فعل الجماعة غير المبرر.. جلس معي هنا أبو العلا ماضي ومعه مجموعة من إخوانه وقد وجدت فيهم نجابة وعمقا ومن الخطأ أن تتسرب هذه الكفاءات من الجماعة.. للأسف جماعة الإخوان التي أحببناها تفقد رشدها شيئا فشيئا. كانت هذه الكلمات غريبة علي أذني فلأول مرة أسمع نقدا للجماعة من رجل له قيمته الفكرية والتاريخية في الجماعة وفي العمل الإسلامي, وحين قلت له: إن الإخوان حركة ربانية وأن الله سيحميها.. قال بهدوء: الإسلام دين رباني ولكن الأفراد بشر يصيبون ويخطئون.. الجماعة قد تزول ويخبو أثرها إن هي خالفت السنن الكونية.. ليس معني أنها ترفع شعارات إسلامية أنها تكون قد حصلت علي قداسة.. جماعة الإخوان ليست مقدسة. وإذ شعرت أن الدكتور ظهر عليه الإرهاق قمنا بتوديعه وانصرفنا وعندما كنا في السيارة قلت لأحمد: هذا كلام لم نسمعه من أحد من الإخوان من قبل وهو يستأهل المناقشة.. فقال أحمد: والله لقد صدق الرجل يبدو أن جماعة الإخوان تفقد رشدها شيئا فشيئا ويبدو أننا سنري أياما حالكة.. المهم أن تنتهي المحاكمات العسكرية علي خير.. هل تري أنها ستنتهي علي خير؟ قلت له: يبدو أننا ننتظر مفاجأة. وحين أمسكت الكراسة لأضعها في الخزانة تذكرت المفاجأت التي توالت علينا حينها.