يحتل مبدأ المواطنة ركنا جوهريا في الدولة المدنية, بل إنه الركن الأول من أركان الدولة إذا ما أريد لها أن تكون مدنية, ومن ثم نستطيع القول بأنه لا دولة مدنية دون مواطنة. ويرتكز مفهوم المواطنة إلي تعريف واضح ومحدد يشير إلي العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات, وهو ما يعني أن جميع أبناء الوطن الذين يعيشون فوق ترابه سواسية بدون أدني تمييز قائم علي أي معايير تحكمية مثل الدين أو العقيدة, أو الجنس أو اللون أو المستوي الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري أو الثقافي, وبهذا المعني فإن المواطنة تعني المساواة الكاملة بين المواطنين في الحقوق والواجبات والمساواة لا تتوقف عند حدود النصوص الدستورية والقانونية, بل لابد أن تنتشر بين المواطنين وتغدو ثقافة مشتركة, بحيث لا يكون أي مكون من مكونات المواطنة محل تساؤل أو تشكيك. والمساواة أيضا تكون بمثابة شعور مشترك يستقر في وجدان أبناء الوطن جميعا بأنهم شركاء متساوون في الحقوق والواجبات باعتبارهم مواطنين. وغني عن البيان أن قيمة الموطنة تطعن في الصميم إذا ما شعرت فئه من المواطنين وتحديدا علي أساس من عناصر الانقسام الأولية وهي الدين, العرق, اللغة بأن لديها ميزة نسبية علي غيرها من المواطنين بسبب ما توارثته من عنصر من هذه العناصر الأولية. وتفاقم مشكلة غياب المواطنة في حال سيطرت اتجاهات أيديولوجية أو ثقافية فيها ما يلح علي العضو بأنه وبسبب ما ورثه من عناصر يتمتع بأفضلية علي غيره من البشر إن لم يكن هو الأفضل علي الإطلاق, ويبدو مهما للغاية الانتباه إلي هذه القضية والتي تمثل في قناعة بعض المواطنين أو قطاع منهم بأنهم الأفضل, والأعلي لعوامل لا علاقة لها بالعمل أو الكفاءة أو الأخلاق أو الإنجاز.. إلخ, وإنما لأنه من نسل مجموعة عرقية أو لغوية أو دينية معينة, وهنا لا مجال للحديث عن الوطنية والمواطنة, وإذا جري الحديث عنها فسوف ي ون لأهداف لا علاقة لها بالقيمة ذاتها. وإذا ما نظرنا إلي الحال في مصر فسوف نجد بالفعل مشكلات جمة تكبل قيمة المواطنة وتجعلها منقوصة بل ومجروحة علي الرغم من أن مواد الدستور المصري تنص علي المساواة وحرية الرأي والاعتقاد وغيرها من القيم التي تتضافر معا لتضع أسسا قوية لمبدأ المواطنة وغيره من المبادئ الإنسانية.. ويبدو واضحا أن المشكلة في مصر تأتي من تداخل الديني بالاجتماعي والسياسي, وانتشار الثفافة الدينية التي تري في المشابه العقيدي في أقصي أركان المعمورة أقرب للنفس من شريك الوطن الذي هو علي عقيدة أخري. مشكلة المواطنة في مصر تأتي من ميراث طويل تكرس بفعل ثورة يوليو, وجرت عملية تغذية متواصلة لتكريس تغييب المواطنة عبر مجموعة آليات تمثلت في مناهج التعليم وسياسات الإعلام المصري, مع مجموعة من القوانين, واللوائح التنفيذية, تضافرت معا فشكلت مناخا عاما يتحدث عن قيم المساواة والمواطنة نظريا, وأسفرت عن مظاهر عديدة باتت تشكل منظومة متكاملة نشهد إفرازاتها في أحداث وحوادث عديدة مع جهاز بيروقراطي يعمل علي الحفاظ عليها وتغذيتها. وفي ظل وضع كالقائم في مصر لا يجدي معه التعامل مع المظاهر أو الأعراض, فالبعض يحلو له اختزال الأمر في وجود سياسات تمييزية في المناصب العامة أو الممارسات التمييزية تجاه التعامل مع دور العبادة, في حين أن القضية أكثر تعقيدا من ذلك. صحيح أنه من المهم أن يجري النص علي قيمة المواطنة في المادة الأولي من الدستور المصري, وأن يجري تعديل القوانين وإزالة مظاهر التمييز, لكن الأكثر أهمية معالجة القضية علي نحو شامل تبدأ من أدوات التنشئة من تعليم وإعلام, بحيث يزال منها ما يجرح قيمة المساواة ويحد من مبدأ المواطنة, وتجري بعد ذلك محاصرة الإفرازات المختلفة, إلي أن تنمو بذور المساواة ويحد من مبدأ المواطنة لدي نفوس المصريين من الصغر, فينشأ لدينا جيل جديد من المصريين تربي علي قيم المواطنة والمساواة وعلي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان, وهذا في حد ذاته سوف يكون كفيلا في مدي عقدين إلي ثلاثة عقود, بالتعامل الجدي مع قيمة المساواة والمواطنة, ويستقر ذلك في مكنون النفس, ومن ثم ينعكس في الممارسة, ويفرض بعد ذلك التعديلات اللازمة في التشريعات والقوانين, والتي ستأتي في هذه الحالة كتحصيل حاصل, وانعكاس لشعور حقيقي لا مواربة فيه ولا مجاملة. وغني عن القول هنا أن القرار بذلك هو مسئولية الحكومة التي بيد أعضائها اتخاذ القرارات اللازمة بتغيير مناهج التعليم ولديهم سلطة تعديل سياسات الإعلام, وتعليم جهاز الدولة البيروقراطي علي احترام هذه القيم بشكل مبدئي. إننا كمصريين نريد مصر وطنا آمنا مستقرا تتسخ فيه القيم الإنسانية وتتقدم فيها مساحة المشترك علي حساب الطائفي, وهي عملية تتطلب إيمانا أصيلا بهذه المبادئ باعتبارها مبادئ إنسانية لا صلاح لمجتمع دونها, ولا نهضة ونموا وتطورا بعيدا عنها.. نحن في حاجة إلي رؤية تطرح كل القضايا بشفافية كاملة وصولا إلي رؤية كلية مشتركة تنهض علي تكريس قيم المواطنة والمساواة, رؤية تحترم العقائد والمعتقدات الدينية وتقر بمبدأ حرية الرأي والاعتقاد رؤية تؤمن بأن مصر للمصريين وأن قيمة المواطنة تسمو فوق أي اعتبار آخر, إذا تحقق ذلك فإن لبنة راسخة ستوضع في أساس صلب لمجتمع متماسك يؤمن بقيمة المواطنة ويتطلع إلي دولة مدنية عصرية حديثة.