في العهد القديم, خاطب نوح ربه قائلا: شبعت أياما كان ذلك أول إعلان في التاريخ عن فكرة الضجر, لم يك نتيجة أن نبي الله ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما, وانما دليل علي تشابه أيامه وعدم تجددها, وهذا ما فعلته الفنون, منذ اهتدي الانسان إلي تعلم الموسيقي والغناء, واستجاب لهما بهزة خفيفة في جسده, فكان الرقص, وصولا إلي النحت والشعر حتي كانت السينما في1995 حصيلة للفنون السابقة, كانت عصا موسي التي تجعل الأيام متجددة لدرجة تثير الدهشة, وتطلق للخيال الفنان, كما يريد صاحبه أو يتمني. والسينما الأمريكية تكاد توحد ذائقة المشاهد حول العالم وتدفعه للضجر من جديد, ما لم تبدأ حركات فنية تتمرد عليها, وهذا ما تمنحه المهرجانات, حين تصبح نافذة علي خيال جديد, تكون فيه بعض التيارات الأمريكية نفسها متمردة علي تراث هيوليود. هذا ما يفعله مهرجان أبو ظبي السينمائي في دورته الرابعة التي تعرض172 فيلما تمثل43 دولة. من فيلم الافتتاح سكرتاريا يبدأ التفاؤل بدورة فيها شيء ما ليس لأن الفيلم عبقري, ولكن لأن جون مالكوفيش بطله أمام ديان لاين, ومالكوفيش حالة خاصة, بجوار جاك نيكلسون, ويصعب القول ان يمثل لأنه مجنون, أو انه مجنون ولهذا يمثل, والنتيجة أنه استطاع أن يكون حالة خاصة, تجمع عبقرية التمثيل بالنجومية, وأن تكون جون مالكوفيش أو مشاهدا له فأنت محظوظ, ومحظوظ أكثر لو قابلته, وجاء الرجل إلي مهرجان القاهرة قبل سنوات رئيسا للجنة التحكيم, وحالت ظروفه دون حضور مهرجان أبوظبي, ولكنه وجه رسالة مصورة, وعد فيها بالزيارة إن شاء الله وضحكنا! ما فعله مهرجان أبوظبي منذ دورته الثالثة2009 أنه أصبح مهرجانا, فتح أبوابه ونوافذه علي الشارع, علي المواطن, الذي أحس بشيء مختلف, يستحق أن يشاهده, ويدفع ثمن تذكرة ليشاهد الخيال, ويحلم بالمشاركة في صنع مثله, وقبل أشهر قال لي مثقف اماراتي ان عائد البترول في بلاده لايزيد علي عائد البترول في دولة مثل ليبيا أو الجزائر, ولم أبذل جهدا للتحقق من هذه المعلومة, ولا سألت عنها خبيرا, ربما هروبا من أن يتأكد لي ذلك فأسال أين تذهب هذه الأموال, في حين تظل الأوطان مغلقة ومعتمة والآفاق محدودة؟ يكتشف المتابع للمهرجان أن العالم ضيق, ليس بالمعني الفني الخيالي, وانما بالمعني الجغرافي, والتواصل الانساني ولا أعرف في هذه العجالة من قال ان رفيق بعوضة في نيويورك يثير أزمة في طوكيو, وتحظي منطقتنا باهتمام سينمائيين عرب وأجانب, فالمخرج الكندي دني فيلنوف أتي بفيلم حرائق المقتبس عن مسرحية بالعنوان نفسه للكاتب اللبناني الكندي وجدي معوض والفيلم طويل130 دقيقة ومقسم بدون داع إلي فصول, وهذا حق المخرج الذي شحن فيلمه بجرعة ميلودرامية, تذكرنا بكلاسيكيات السينما, حيث المفاجآت واطلاق الدموع وتوقع الفواجع علي عكس آثار التراجيديا التي لاتميل إلي ذلك. في الفيلم استعراض بانورامي لمقدمات الحرب الأهلية اللبنانية, والصراع بين أفكار لبنانيين وموقفهم من أبناء المخيمات وصولا إلي حرب طاحنة يتقاتل فيها أبناء الطوائف, بل أبناء الطائفة نفسها حتي ان دخان الحرائق يعمي العيون والقلوب, وينتهك الرجل عرض أمه, ويكون ثمرة هذه الخطيئة أولادا هم أبناؤه واخوته! يشارك حرائق في مسابقة الأفلام الروائية, في حين يشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة الفيلم الالماني أطفال الحجارة.. أطفال الحصار وفيه يذهب المخرج روبرت تريج إلي بيت لحم بعد عشرين عاما علي فيلمه انتفاضة1989, ليقتفي أثر ستة من الصبية يحتفظ بصورهم, وفي سبيل ذلك يلقي أضواء علي ماحدث في فلسطين خلال عشرين عاما. ومن النرويج آتت المخرجة فيبكه لوكبرج بفيلم دموع غزة وقد صورته خلال الحرب العدوانية الاسرائيلية علي القطاع في نهاية2008 وبداية2009 ليكون المشاهد خلال90 دقيقة أمام حقيقة مروعة وعارية للحرب والحصار والموت والتجويع.. ان وثيقة انسانية عن آثار الحرب والتواطؤ.. ومن لبنان يشارك ماهر أبي سمرا في هذا القسم أيضا بفيلم شيوعيين كنا وفيه مراجعة لميراث الحرب الأهلية في بلاده, ملتمسا الطريق للمستقبل بعد مضي نحو عشرين عاما علي نهاية تلك الحرب. في قسم آفاق جديدة يشارك المخرج الأمريكي بفيلمه الوثائقي الطويل(95 دقيقة), القنوات الخلفية.. ثمن السلام عن المناورات الخلفية, لاتفاقيتي كامب ديفيد عام1978, والتي ترتب عليهما معاهدة سلام بين مصر وعدوها التاريخ, ويقول دليل المهرجان والفيلم لم يعرض بعد ان الفيلم يكشف النقاب عن الدسائس والغرور خلف العملية الدبلوماسية, ويقدم مشاهد لم تعرض من قبل من خلال مقابلات موثقة. في هذا القسم أيضا فيلم للبنانية دانا أبو رحمة مملكة النساء عين الحلوة عن الفلسطينيات في هذا المخيم الشهير الذي كان مسرحا لمجزرة صابرا وشاتيلا1982.. وكيف كان تحدي النساء لحياة صعبة. المومياء.. عروس المهرجان الحضور المصري في المهرجان لافت من ضيوف وأفلام ففي المسابقة الرسمية يشارك رسائل البحر لداود عبدالسيد, وفي قسم آفاق جديدة يعرض الفيلم التسجيلي الطويل جلد ص عن عمالة الأطفال مدابغ الجلود, وهو للمخرج فوزي صالح, وفي مسابقة الأفلام قصيرة يشارك صلصال لأحمد النجار, أما عروس المهرجان فهو تحفة شادي عبدالسلام المومياء الذي يعرض ضمن قسم كلاسيكيات مسرحية ليكون سفيرا للسينما المصرية باعتباره أبرز الأعمال في تاريخها, حيث يأتي في مقدمة استطلاعات الرأي حول السينما المصرية علي الرغم من معاناة مخرجه الذي لم يتمكن من عرضه إلا عام1975 بعد ست سنوات علي انتاجه. في المومياء عمق التاريخ المصري, ولايمكن لمشاهده إلا أن ينسبه إلي الحضارة المصرية, إلي أحفاد الملوك الذين نقل أحمد كمال مومياواتهم عام1881 من الدير البحري إلي المتحف المصري بالقاهرة كل مشهد وراءه جهد, ولهذا يظل محفورا في الذاكرة, ومشاهدة الفيلم مساء أمس( السبت) كانت كأنها الاولي للحاضرين الذين شاهدوه مرات في التليفزيون, ولكنه لايشاهد إلا علي شاشة تليق به, وبجهود الذين ساهموا في تشييده كجزء من استعادة الوعي التاريخي والحضاري. ويؤكد الفيلم أن كل ابداع رغم عفويته وتلقائيته لابد أن يكون وراءه جهد كبير, وعرق غزير, ولكن كما قال يحيي حقي لا أحد يحب ان يري عرق العامل وهو يعمل. المومياء هو ثمرة جهد مخرج يحب تاريخه, ويعرف كيف يترجم هذا الحب إلي عمل فني يضمن له الخلود, بعد أن تعب عليه كثيرا كما قال مهندس الدكتور صلاح مرعي, شريك شادي في الفيلم, عقب العرض, ان هذا أول فيلم في تاريخ السينما المصرية يكون مخرجه هو كاتب السيناريو.. وقد تم تنظيم ورش عمل, قبل شيوع هذا المصطلح, حتي ان شادي قام بتدريب الممثلين علي الأداء لمدة ثلاثة أشهر, ولم يكن هذا مألوفا في تلك الفترة. المومياء هو عودة الوعي.. يامن نوديت, باسمك لن تموت.. لقد بعثت!