مساكين شباب مصر في الألفية الثالثة دائما يجدون أنفسهم في خانة الاتهام, ويتم التعامل معهم من منطلق هاتتباس هاتتباس! فول التزموا دينيا, وتطرف منهم من تطرف فهم متشددون ونواة للإهارب وبذور للفتنة! وإن عاشوا حياتهم بالطول والعرض, ضاربين عرض الحائط بالعادات والتقاليد, فهم ضعاف الشخصية, ولا هوية لهم, ويعانون نقصا حادا في مشاعر الانتماء والتمسك بالأصول, وإن قعدوا في بيوتهم كافيين خيرهم شرهم, فإنهم سلبيون متكاسلون متهاونون في حقوقهم وحق الوطن عليهم. ورغم أنني أشعر بالكثير من الغيظ والغضب كلما مررت بأماكن تجمعاتهم سواء علي كورنيش النيل نهارا حيث يتجمعون بعد عمليات التزويغ الناجحة من المدارس او في المراكز التجارية, او النوادي, حيث استمع لاحاديثهم التي تطغي عليها السخافة والتفاهة غالبا, ناهيك عن طريقة الحديثة الخالية من الأدب والذوق واللياقة, والمتخمة بعبارات الشتائم والسباب التي يطلقونها تحببا وتقربا وعلي سبيل الصداقة والمحبة, إلا أنني سرعان مااعود إلي صوابي واعطيهم كل العذر! حتي اولئك الشباب من فئة عفاريت الأسفلت من قائدي سيارات الميكروباص الذين ساهموا بقدر غير قليل في تأصيل أجواء العشوائية البغيضة في شوارع القاهرة الكبري وحاراتها, فكلما رأيت احدهم وهو يصارع ويلاكم ويقاتل في محاولة لكسر قوانين الطبيعة, أشعر بقدر غير قليل من الكراهية تجاههم, لكنني سرعان ما أعيد تصحيح مسار مشاعري, وأتعاطف معهم كل التعاطف! وحين أركب المترو وانظر في وجوه الأخوات وهن حائرات بين متابعة الدروس الدينية التي تلقيها اكثرهن ورعا وايمانا وتدينا, وبين الفصال بين الأخت التي تبيع اقلام الكحل المضروبة, وظلال الجفون المسمومة, وطلاء الأظافر المغشوشة, ينتابني شعور عارم بأن اسألهن عن مستقبلهن, وكيف يخططن له, وعن طموحاتهن ومواهبهن, وقدراتهن واهتماماتهن التي من شأنها ان تجعل كلا منهن انسانة متميزة, ولكني لا أفعل, لانني أعرف انهن لا حول لهن ولا قوة! خانة الكسالي مواقف لا حصر لها, نوعيات لا أول لها أو آخر أراهم وأقابلهم من الشباب الذين اعتدنا وضعهم في خانة السلبيين المتواكلين والكسالي والحياري دون ذنب لهم. فنحن نصم آذانهم بالحديث عن ضرورة ان يثقفوا أنفسهم, ويكونوا ملمين بكل ما يحدث حولهم من أحداث سواء عالمية او محلية, والتفاعل الحقيقي مع مجريات حياتهم حتي يؤثروا فيها ولا يكتفوا بلعب دور المراقب لحركة دفة مستقبلهم, ولكن ما أن يبدأوا فعليا في القيام بذلك حتي ننهال عليهم تهديدا, ووعيدا, واحيانا تدخلا عنيفا ان لزم الأمر. فمثلا لو جاءتني ابنتي ذات يوم وأخبرتني انها ستستخرج لنفسها بطاقة انتخابية لتدلي بصوتها في الانتخابات, فإن رد الفعل الأول حتما سيكون تحذيرها من ان تطأ قدماها المنطقة المحيطة بلجان الانتخابات خوفا من البلطجية والمتحرشين, وان عرفت ان ابني يتحدث في السياسة في الجامعة مثلا, لا سيما لو كانت جامعة رسمية, وانه يعبر عن وجهات نظر لا تتسق والخط السياسي الوطني( اي الذي يعكس وجهة نظر الحزب الوطني الديمقراطي) فانني سأخيره بين أن يقلع عما يفعل, او ان يقلع عن الذهاب إلي الجامعة تماما. سلبية مبررة فنحن نتهمهم بالسلبية السياسية دوما وأبدا, وننعتهم بالجهل السياسي علي طول الخط, ونعرف تماما انهم يعانون امية معلومات عامة طاحنة, ورغم ذلك ان بدأوا يظهرون علامات اهتمام بما يحدث علي الساحة السياسية, لا سيما الداخلية, نلوح لهم بعصا التهديد والوعيد ومطالبتهم بضرورة المغادرة الفورية, فالسياسة في الجامعة مرفوضة( الا اذا كانت تتعلق بتيارات معينة مرضي عنها بالطبع), والتعبير عن الغضب تجاه ما يحدث عربيا مكروه( إلا إذا كان ذلك من شأنه ان يخدم توجهات بعينها طبقا لخطة زمنية محكمة) لذا تعمد الغالبية إلي اتباع المثل القائل: ابعد عن الشر وغني له فيما يتعدق بالسياسة, بل أن البعض يبعد عنها ولا يغني لها. إذن له العذر في سلبيته السياسية وجهله بمجريات الأمور من حوله. عشق العبودية وفي المدرسة نحن نزرع في الصغار عشق العبودية, ووله الانصياع للآخرين فحصة التعبير عبارة عن عناصر يحددها المدرس سلفا وشواهد معروفة تتناقلها الأجيال, إذن فالصغير مطلوب منه أن يكتب عن أهمية الصداقة من منظور النقاط التي أملاها عليه المدرس, وهو مجبر علي الا يحيد عن الخط الرسمي في الكتابة عن أهمية السياحة والشعب المصري المضياف( رغم ان خبرته في ذلك تتلخص في رؤيته للشباب الذي يضايق السائحات في وسط القاهرة ومحاولات بعض اصحاب محلات الفضة والبرديات النصب علي السائحين) وعن أهمية الحفاظ علي مياه النيل( رغم انه لا يسمع الا عن التلوث وبقع الزيت), وعن عيد الفلاح( رغم انه لم يعد هناك فلاحون اصلا) فإن كتب الصغير عن خبرته الشخصية, او وجهة نظره الذاتية فمصيره يكون فقدان الدرجات والتعرض للتهزيئ من قبل المعلم, إذن له العذر في فقدان روح الإبداع والاكتفاء دائما وابدا بلعب الأدوار الثانوية. رغم اننا نصم آذان الشباب بضرورة لعب الرياضة والمداومة عليها, الا أن الغالبية العظمي منهم لا تتمكن من ممارستها لعدم وجود اماكن مناسبة لذلك, لاسيما للفتيات فالنوادي الرياضية تقتصر علي أبناء الطبقات المقتدرة او التي كانت مقتدرة او ارستقراطية أو كليهما, وليس في مقدور الغالبية المتبقية ان تجرؤ علي مجرد الحلم بدخول احد هذه النوادي, وكل ما يسمعونه يقتصر علي تسفيه شكواهم, فكم من مرة نملي عليهم ضرورة ان يتخلصوا من الحجج الواهية, فلديهم مراكز الشباب التي يمكن ان تستوعبهم, حتي وان كانت غير مناسبة للفتيات لاسيما وان البعض منها تحول إلي مرتع للشباب البلطجية وغيرهم, او لديهم الشوارع ليمشوا فيها, ومش ضروري يعني علشان يتريضوا يمشوا في تراك ترتان صحيح أنه لا يجد رصيفا واحدا يوحد ربنا يمكنهم المشي عليه, لكن مش مشكلة! دعهم يناطحون السيارات والاتوبيسات فيها إيه يعني؟! إذن لهم العذر في ان يظهروا لنا أذنا من طين والأخري من عجين كلما بدأنا في القاء محاضرة أهمية الرياضة! عيشه عشوائية أما شباب عفاريت الأسفلت الشباب, فهم في عالم آخر تماما فالغالبية العظمي منهم تمثل نماذج واضحة وصريحة وصارخة لما يمكن أن تسفر عنه العشوائيات ولا أتحدث هنا عن مجرد العيش في منطقة عشوائية, ولكن ما اعنيه هو نتاج هذه الحياة علي الأخلاق والأفكار والتصرفات والأولويات. الطريقة التي يقودون بها سياراتهم, ويحلون مشكلاتهم, ويتحدثون مع بعضهم البعض, ويأكلون ويشربون.. كل ما يفعلونه هو نتيجة هذه العيشة العشوائية في فحواها, وليس فقط في مظهرها أو مواصفاتها الشكلية. إذن حين نطالبهم بالتصرف بتحضر أو التوقف عن محاولة خرق قوانين الطبيعة بأسلوب قيادتهم أو التأدب أو التهذب, نكون قد طلبنا منهم المستحيل فعليا! ماذا قدمنا إذن للشباب وقد قطعنا عقدا كاملا من الألفية الثالثة؟ بالطبع محاولة الزج بأكبر عدد منهم للحصول علي ورقة تفيد بأنهم امضوا اربع سنوات بين جنبات مؤسسة تعليمية جامعية, أو زنقهم في شقق صغيرة جدا ليتزوجوا فيها وينجبوا أبناء وبناتا يرثون عنهم دائرة الفقر التي تحاصرهم من كل صوب, أو مساعدتهم للالتحاق بدورات لتعليم الكمبيوتر واللغةالانجليزية لمحو اميتهم التي فشل نظام التعليم العقيم في محوها, ومن ثم عزت عليهم فرص العمل, هذه وغيرها محاولات إصلاح أو بالأحري ترقيع الوضع الخاطئ. شباب مصر يستحقون ما هو أفضل من ذلك ولا يصح أن نغلق امامهم منافذ النور والماء والهواء, ثم نطالبهم بأن يكونوا مواطنين أسوياء أصحاء, بل لا يصح أن نطالبهم بأن يكونوا مواطنين من الأصل! إذا كنا نتحدث عن المواطنة وضرورة مشاركة الشباب حديثا حقيقيا مقصودا به ترجمة الحديث إلي واقع, فعلي الجميع أن يوفر للشباب ما يجعله يشعر أنه مواطن كامل حقيقي, وذلك بدءا بتعليم قادر علي تخريج افراد يتمتعون بقدرة علي التفكير لأنفسهم والابتكار والابداع, حتي لو كان ابداعا في مجال السباكة والنجارة, ومرورا بالسماح لهم بأن يعبروا عن آرائهم التي يشعرون بها, وليست تلك التي نود أن يشعروا بها, وانتهاء بتوفير ظروف حياتية تليق بالبشر من فرص عمل ومساكن ورعاية صحية واجتماعية وغيرها. أما إذا كان الحديث فض مجالس, فعلينا ان نستمر علي المنهاج نفسه الذي نسير عليه منذ عقود, ولا نحيد عنه قيد أنملة! نفسي خبر طريف جدا جاء علي موقع سي إن إن مفاده أن أحد المشاركين في موقعTwitter الاجتماعي أطلق مجموعة جديدة سماهاiwish, أو اتمني بحيث يمكن لمستخدميTwitter المشاركة عبر كتابة أمنياتهم, والتي اتضح بعد ايام قليلة من إطلاقها انها تتميز بكثير من التنوع والغرابة. إحدي المشاركات تمنت لو تتمكن من الاستيقاظ لتجد نفسها في العام2011, بينما تمنت مشاركة أخري أن يكون لديها شعر ناعم. المجموعة تم استخدامها ايضا من قبل مجموعات تهدف إلي نشر فكرها وأهدافها, فمنها ما استخدمها ليدعو مجتمع الإنترنت للتعرف إلي الوجه الحقيقي للإسلام, ومنها ما دعا الجميع إلي اعتناق البوذية هذا بالطبع بالإضافة إلي ان الشركات وأصحاب المصالح التجارية أعلنوا عن أنشطتهم ومنتجاتهم عبر هذا المنفذ المجاني. ولأننا نتحدث اليوم عن الشباب ولأن المعلوماتية الحديثة هي في الأساس أداة شبابية جدا, لماذا لا يطلق أحد المتشدقين بأهمية دور الشباب ومركزية مشاركة الشباب وحيوية تقلد الشباب المناصب المهمة دون السعي لتنفيذ ما يتشدق به مثل هذه المجموعة ليقرأ ويري بنفسه ما يجول في داخل الشباب من أماني واحباطات وإبداعات وأفكار؟! وأعتقد أنها فكرة جيدة, خصوصا انها ستتيح لمن يرغب التعرف علي جانب غير مرئي في حياة نسبة كبيرة جدا من المصريين,بدلا من الإصرار علي أن نعبر لهم عن أنفسهم, ونوفر لهم ما نري أنهم يحتاجونه, ونحرمهم مما نعتقد انه ضار بهم, ونشكل لهم كيانات سياسية واجتماعية واقتصادية نؤكد أنها الأحسن لهم؟ وبما أننا خضنا في أغوار الإنترنت, هذه تذكرة أخري بأن الإنترنت وكل الأدوات المتاحة عليه من فيس بوك وتويتر ودردشة وغيرها تؤكد ان محاولة الوقوف في وجه حرية التعبير لن تجدي وإن نجحت مرة, فلن تنجح المرات الأخري آه والله! ملحوظة أخيرة الأحداث الاخيرة علي الساحة الإعلامية الخاصة( أي غير المملوكة للدولة) تؤكد أن الإعلام المقروء والمرئي وبالطبع المسموع قوة حقيقية لا يستهان بها, وسلطة قادرة علي إحداث التغيير, سلبيا كان أو ايجابيا. وبعيدا عن تقييم ما حدث أخيرا, والبحث في أغواره السياسية, فإن الدرس الأهم هو أن الإعلام أثبت بالحجة والبرهان أنه صاحب الصوت الأعلي والقدرة الأعمق في الوصول إلي الناس. درس آخر يمكن الخروج به ايضا, وهو ان احد الاعراض الجانبية, ربما غير المقصودة, للإعلام الخاص هو إجبار الإعلام غير الخاص علي التخلي تدريجيا عن إصراره المميت علي أن كل شيء علي ما يرام, وإن جميع المصريين بخير, وأنه ليس في الإمكان أحسن مما نحن فيه. صحيح ان هذا يحدث ببطء, ولكن يكفينا فخرا انه يحدث!