ليست هناك حرية في أي مكان في العالم بدون إعمال مبدأ المسئولية, وينطبق ذلك علي ممارسة الحرية السياسية في المجتمعات الديمقراطية , وعلي ممارسة حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم. ولذلك فالدعوات الصاخبة التي ارتفعت في بلادنا العزيزة في السنوات الماضية بحكم اتساع دوائر الحرية إلي أقصي مداها, والتي زعمت أن ممارسة الحرية يمكن أن تكون سداحا مداحا كما وصف أحمد بهاء الدين الانفتاح الاقتصادي في بداية عهده, هي دعوات باطلة ومغرضة, ويمكن أن تؤدي إلي الفوضي السياسية, والفوضي الاجتماعية والثقافية. لو رأينا المشهد السياسي الفرنسي علي سبيل المثال لوجدنا الأحزاب السياسية تتبادل الحكم وفقا لنتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. أحيانا تنتصر أحزاب اليمين وأحيانا أخري تنتصر أحزاب اليسار كما أن رهن مصير المجتمع أي مجتمع بتعقيداته المعاصرة بتفسير النصوص الدينية أيا كانت إسلامية أو مسيحية, معناه تقييد حركة المجتمع,وترسيخ قواعد التخلف حتي يستمر إلي أبد الآبدين ولو نظرنا نظرة مقارنة لممارسة الحق في الحرية في عديد من المجتمعات الديمقراطية, لاكتشفنا أن هناك عديدا من الضوابط تحكم ممارسة الحرية. ففي المجتمعات الغربية الديمقراطية لا يسمح بقيام أحزاب سياسية تدعو لاستخدام العنف, أو تمارس بشكل منهجي سياسات تؤدي إلي الكراهية الدينية. أما حرية الصحافة والإعلام وهي مكفولة إلي حد كبير في هذه المجتمعات, فهي تخضع بدقة لرقابة القضاء إذا حدثت تجاوزات واضحة ومثبتة, مما يخالف القانون أو أخلاقيات المهنة. وهناك حالات عديدة حكم فيها القضاء في البلاد الغربية بغرامات باهظة علي بعض الصحف التي مارست السب والقذف ضد بعض الشخصيات. ويعد ذلك رادعا كاملا لهؤلاء الذين يخالفون القواعد المهنية. وإذا كانت حرية التفكير مكفولة في المجتمعات الديمقراطية وكذلك حرية التعبير, فإن ذلك مشروط بممارستهما بصورة متزنة, لا تؤدي إلي إحداث فتن اجتماعية من شأنها أن تؤثر علي السلام الاجتماعي. ولو ألقينا نظرة فاحصة علي المشهد المصري بكل جوانبه السياسية والإعلامية والفكرية, لوجدنا أن الفوضي هي سيدة الموقف! فقد وجدنا في الممارسة السياسية حركات لجماعات معارضة من حقها أن تعارض توجهات النظام, ومن حقها أن تنتقد السياسات الحكومية, غير أن شرط ذلك أن تكون هذه الممارسة من داخل النظام وليس من خارجه! وهذه قاعدة راسخة في المجتمعات الديمقراطية, حيث تعد أحزاب المعارضة مهما كانت توجهاتها من أركان النظام الديمقراطي, لأن القاعدة هي تداول السلطة. ولو رأينا المشهد السياسي الفرنسي علي سبيل المثال لوجدنا الأحزاب السياسية تتبادل الحكم وفقا لنتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. أحيانا تنتصر أحزاب اليمين وأحيانا أخري تنتصر أحزاب اليسار. غير أن بعض الجماعات السياسية المصرية التي ظهرت علي هامش النظام السياسي المصري, لا تمارس المعارضة في الواقع ولكنها تمارس الانشقاق عن النظام السياسي الراهن. بمعني أنها كما يصرح قادتها يريدون إزالة النظام السياسي القائم أو إزاحته حتي يحل محله نظام سياسي جديد. ولكنهم أبدا لم يصرحوا ما هو شكل هذا النظام السياسي الجديد, ومن هي القوي الاجتماعي التي ستدعمه, وما هي التيارات السياسية التي ستؤيده؟ ولنفترض أنه تمت إزاحة النظام السياسي القائم والذي تعود شرعيته إلي ثورة يوليو1952 بتوجهاتها المعروفة, والتي قد يكون حدث ابتعاد عن بعضها, هل ستقع البلاد في أسر نظام سياسي جديد تقوده جماعة الإخوان المسلمين التي تدعو إلي تأسيس الدولة الدينية بعد الانقلاب علي الدولة المدنية الراهنة ؟ أم هل سيكون النظام الجديد دعامته هذه الجماعات السياسية المشتتة بقادتها الذين يتصارعون صراعا عقيما علي بعض المناصب التي لا معني لها مثل منصبالمنسق العام الذي تتقاتل عليه شخصيات سياسية باهتة ليس لها أي ماض سياسي, ولا تمثل أي ثقل فكري؟ أم أن النظام السياسي لو أزيح ستكون البلاد في مواجهة فوضي سياسية عارمة, تحاول فيها تيارات سياسية متصارعة أن تحكم البلاد منفردة؟ كل هذه أسئلة مشروعة. ولذلك تنبغي التفرقة الواضحة بين الأحزاب السياسية المعارضة والتي هي كما يصرح الرئيس حسني مبارك جزء من النظام, وبين الجماعات السياسية المنشقة التي تريد الانقلاب علي النظام بصورة مضادة للديمقراطية. يمكن في هذا المجال أن نسوق تصريحين للمرشد العام الحالي للإخوان المسلمين وللمرشد السابق. صرح المرشد الحالي قائلا: إنه ينبغي تعديل الدستور المصري بالكامل علي هدي الآيات القرآنية. ومعني ذلك في الواقع التمهيد لتأسيس الدولة الدينية, وفي ذلك مخالفة لكل القواعد الديمقراطية. ونحن نعلم أن الديمقراطية الغربية قامت علي أساس مشروع الحداثة الأوروبي, والتي كان شعارها أن العقل وليس النص هو محك الحكم علي الأشياء. وذلك لأن أوروبا كانت قد عانت الأمرين من الحكم الديني, وتحكم الكنيسة في مقدرات المجتمع. ولذلك ونتيجة لإبداع المفكرين استقر الرأي علي الفصل بين الدين والدولة, باعتبار أن ذلك هو الشرط الأساسي لإقامة مجتمع سياسي سليم, لا يهيمن عليه رجال الدين بجمودهم الفكري التقليدي, ولا يسيطر عليه النص الديني والذي قد يحمل تأويلات محافظة ورجعية مضادة للعقل في كثير من الأحيان. كما أن رهن مصير المجتمع أي مجتمع بتعقيداته المعاصرة بتفسير النصوص الدينية أيا كانت إسلامية أو مسيحية, معناه تقييد حركة المجتمع,وترسيخ قواعد التخلف حتي يستمر إلي أبد الآبدين. والتصريح الثاني للمرشد السابق للإخوان المسلمين قال فيه الدولة دولتنا ولابد من إزالة النظام القائم بأي طريقة ممكنة وهذه دعوة صريحة للانقلاب علي النظام السياسي القائم, تعبر عن الدعوة للانشقاق التي تحدثنا عنها من قبل. وقد ارتفعت الأصوات المنشقة عن النظام والتي ساندها الدكتور البرادعي لمقاطعة الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وتشاء التطورات الإيجابية في الموقف السياسي أن ترفض الأحزاب السياسية المعارضة وفي مقدمتها حزب التجمع وحزب الوفد والحزب الناصري, هذه الدعوة المضادة للديمقراطية, وتقرر خوض الانتخابات. وهكذا هزم تيار الانشقاق علي النظام هزيمة ساحقة, وعبر عدد من الناشطين السياسيين المنشقين عن حزبهم العميق لفشل دعواتهم للمقاطعة مع أنها ضد التغيير الذين يطالبون به! وينتظر في القرب أن تشهد مصر انتخابات برلمانية ساخنة, نرجو أن تسفر عن تشكيل مجلس شعب يعبر عن الاتجاهات السياسية الأساسية بما فيها الاتجاهات المعارضة غير المنشقة. نعم للمعارضة, ولا للانشقاق!