إحساس مختلف يتصاعد مع تقليب الصفحات عندما يجد القارئ نفسه شخصا من شخوص الرواية, عاش الحوادث وصاحب صناعها وعرف الأمكنة. إنها تجربة جديدة للقراءة, يفرح معها القارئ بصوت عال ويشتم المؤلف ويمسح دموعا لا يعرف مصدرها ثم يسعي الي ملء الفراغات وتصويب التفاصيل وجر المعلومة الي تنور آخر. في روايته الحياة لحظة الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية يأخذنا الكاتب سلام ابراهيم في أكثر من خمسمائة صفحة الي تجربة مؤلمة عاشتها شرائح اجتماعية عراقية متنوعة في الربع الأخير من القرن العشرين, وهي باختصار سجل مؤلم لتجربة الشيوعيين العراقيين في سجون الديكتاتور وفي جبال كردستان بعد ان كذبت التطورات الاجتماعية والسياسية مشروعهم الأممي فوجدوا في تيه المنفي فسحة خراب وبلادة لذيذين. أحداث رواها المؤلف بأكثر من ضمير وبلغة صادمة فضحت الكثير من المسلمات والمبالغات التي أدمنت الذاكرة الشفهية ترديدها عن صلابة ونظافة المناضل السياسي, لغة نفذت الي العالم السري للمناضلين السياسيين الذين عاش بينهم المؤلف لتكشف بألم وسخربة هشاشة الذات الانسانية المستغرقة في صراع الطبقات وسعادة الشعوب ومشكلات الكون وهي في نفس الوقت عاجزة عن التخلص من خرابها الداخلي وليس لها الخبرة أو القدرة علي تذوق أبسط متع الحياة كالحب والجنس وتكوين عائلة. وتأتي خصوصية هذا الكشف, الذي لا يخلو من خبث وشجاعة, من حقيقة ان المؤلف عاش التجربة وفقد فيها أحباءه ورئتيه بسبب السلاح الكيماوي وعرف عن قرب تناقضات الذات الانسانية للمناضلين الحقيقيين بعد أن اثخنتهم الجراح وبعد ان أثبتت الحياة سذاجة أفكارهم وعبث نضالهم. أي أن الرواية وثيقة الصلة بسيرة المؤلف الذاتية وهي أشبه ماتكون بواجهة زجاجية شفافة نستطيع عبرها النظر الي معاناته وتلصصه وأشعاره الخجولة في شوارع مدينة الديوانية المنسية علي نهر الفرات لكن الواجهة الزجاجية تخدعنا أحيانا وتخبئ رموزا ودلالات غريبة ومنتجة للشك, تشير الي ان معرفتنا بسيرة حياة المبدع قد لا تكون كافية لفهم منجزه الابداعي. لابد من التوقف والإشارة الي موهبة الفنانة هنادي سليط في تنفيذها غلاف الرواية باستخدامها ألوان الخريف والثلج الروسي حيث يسير المنفي وحيدا بمعطفه الأسود الي نهايات الأبيض. تبدأ الرواية من شقة صغيرة بمدينة موسكو الشديدة البرودة. ترحل الزوجة وطفلها الي منفي آخر أكثر رحمة ويبقي الزوج وحيدا لتتحول شقته الي ملاذ للعراقيين الهاربين من جحيم الديكتاتور, يلتقون فيها كل مساء للحوار وترميم الذاكرة, يستحوذ فيها سقوط الاتحاد السوفيتي وعزلة الأحزاب التي تدور في فلكه علي السرد الروائي ليزيد من مساحة العزلة والخيبة عند المنفيين. ومع أن أكثر أحداث الرواية تجري في مدن كبيرة وجميلة, موسكو وكييف وكوبنهاجن, إلا أن الواجهة الخلفية للأحداث خائفة علي نحو لا نهائي سجون ومتاريس وجبال موحشة وشهداء ورجال دراويش صعدوا للقتال ببنادق عتيقة لمواجهة أقسي ديكتاتورية في شرقنا الدامي. طبيعة الشخصيات التي تلتقي كل مساء حول طاولة مليئة بالخمور من دون موعد يصورها السرد من خلفيات وأصول لا يمكن لها أن تلتقي في الظروف الاعتيادية, فهي خليط من مناضلين وعاهرات وطلاب وبائعات ومثقفين ومشردين, يتسمون باستثناء الشخصية المحورية ابراهيم السلامي وهو اسم المؤلف مقلوبا باسم واحد من دون القاب اجتماعية أو سياسية أغلبها أسماء مستعارة يكشف عن دلالتها لاحقا تطور الحوادث وطبيعة الحوارات. في سياق القص نجد أن الحالة الملتبسة لطبيعة الحوارات والصراعات التي يخوضها الشخوص في عزلتهم وسكرهم المتواصل قد ساهمت بتجاوز الخطوط التي رسمها لهم المؤلف وسهلت مد خيوط التواصل علي الرغم من التناقض الظاهري بينهم وخصوصا بين السياسي والعاهرة, وهذه الأخيرة يحرص المؤلف علي أن يصورها أكثر شاعرية وبساطة. أحداث الفصول الاولي جرت بمدينة موسكو التي تشكو من كثرة الثلج والنساء والخمر يشعر معها القارئ بالبرد والبلل, فلقد سكب خمر في الرواية أكثر مما بيع منه في حانة شريف وحداد عند شارع الرشيد ببغداد, وتشابكت أجساد وسيقان أكثر ما تناكحت الحمير في إسطبل الكرفت المفتوح علي السماء في مركز مدينة الديوانية القديم الذي عرفه المؤلف في بداية تسكعه. إلا أن الخمر والجنس لم يجر استخدامهما كعكازين لاستمرار السرد ومسك القارئ من رقبته, ولا حتي تبريرا حياتيا لفشل المناضلين السياسيين في مواصلة نهجهم بل هي طبيعة الحياة القاسية بموسكو والتي لا يمكن تحملها بدونهما ومن شاهد تلك الديار في أيام الانهيار الكبير سيدرك ذلك, وتصادف ان انسجمت هذه الطبيعة مع عبثية الحالة التي وجد الرجال المنفيون أنفسهم فيها, تجلت في تصوير السرد خروج الشاعر والسياسي والعاهرة سكاري الي شوارع موسكو لمشاهدة الفقراء الروس يتظاهرون ضد سلطة الفقراء الاشتراكية. ليس سرا القول أن موضوع الرواية أثار حفيظة شريحة اجتماعية واسعة لها حضورها وتاريخها في الشارع العراقي, فتجربة الأنصار المسلحة عند أصحابها وضحاياها عظيمة ولايمسها الزمن, ولذلك يجدونه مؤلما التوقف في استحضارها فقط عند الجانب السلبي للأحداث, ولايفرحهم كشف غوامضها وحك المتخثر خلف مفردات البطولة والوعي والنضال, بلغة ملغمة وتفصيلية تكشف عن حياة السياسي الخالية من الدفء تقريبا. تجربة الانصار الشيوعيين بكردستان العراق مهمة وبطولية وصوفية أنهكها انصارها بالأغاني والشعارات واجترار الذكريات ولم يبادروا إلي اخراجها الي النشاط العام للفعاليات الاجتماعية والثقافية, ونستطيع القول أنه لم يحدث أن تناول هذه التجربة روائي عراقي عن قرب وفضح العالم البائس للمناضلين بهذا القدر من التفصيل والعمق والتهكم كما فعل سلام إبراهيم. ومع ذلك فإن رواية الحياة لحظة الصادمة لذوق اليسار العراقي هي ابنة هذا اليسار ونتاج تجربته بحلوها ومرها وتبقي مشكلاتها أنها رويت وفق أدوات وأولويات وأخيلة المؤلف. ولو توقفنا عند الجانب الانساني للموضوع لادركنا بيسر أن الرواية خرجت في أكثر من فصل عن تحديدات السياسة علي الرغم من أن موضوعها سياسي بحت, ولايمكن حصرها بين مفردتي اليسار واليمين, بين التقدمية والرجعية, بين الخير والشر لأنه كبح لعوالمها وحرمان للقارئ من متعة كشف أخري. فالغوص في أسرار البطل المخذول, كذات إنسانية مليئة بالمتناقضات, أكثر تعقيدا من ذلك بكثير ولايمكن حصره في مفردتين سطحيتين. فكيف نرسم لوحة بلونين فقط لملامح مناضل سياسي يتعرض يوميا للموت وهو يخبئ في نفس الوقت حفنة جوز مخلوط بالسكر عن زوجته, ومقاتل آخر معروف بالطيبة ونكران الذات وقد عذب رفيقه الذي يأكل معه في صحن واحد حتي الموت بسبب اختلاف في الرأي, ورفيق درويش ثالث يحاول الاعتداء جنسيا علي رفيقه بعد عودتهما من أرض المعركة, إضافة إلي الكثير من الحوادث المشابهة والتي تسيء إلي تجربة الانصار المسلحة( عند البعض) ولكنها في نفس الوقت تشير إلي أنسانيتها وواقعيتها وتؤكد أن ابطالها وصناعها هم أبناء بيئتهم وظروفهم مهما فعلوا. في رواية الحياة لحظة نشهد حضورا للماضي القريب, الربع الاخير من القرن العشرين, لم يلجأ فيه المؤلف إلي تقنية للحفاظ علي وحدة الموضوع رغم وسعه وضياع الشخصيات الثانوية فيه, ساعده في ذلك وحدة الثيمات في فصول الرواية الخمسة عشر التي انتهت بموت إبراهيم السلامي مع أنه ذاق الموت أكثر من مرة. وحضور الماضي القريب لايقلل من أهمية أن المؤلف في سرده للحوادث استخدم ذاكرة قوية تنبش في التفاصيل وتوسل مخيلة مغرمة بالسلبي والغامض, تتكشف في العبور السريع علي المواقف المشرفة للمناضلين والتوقف طويلا عند حادثة اغتصاب أو سرقة رغيف خبز في حراسة ليلية. سرد الحوادث من زاوية ضيقة ومن ثم المبالغة في التفاصيل للحط من هيبة السياسي تبدو احيانا ليست في سياقها السردي وكأنها عملية قصدية تخبئ الكثير من النوايا, نجد بعضها في فرح الراوي وهو يتأمل معاناة رفاقه في شقة موسكو وهم يتهربون من أسئلة الحب والجنس التي تفتقر إليها حياتهم, ونلمسها أكثر في لغة السرد الطافحة بالشعر والحب والامثال الشعبية ولكنها ما أن يحضر السياسي حتي تتحول الي التهكم والسخرية والمرارة والبحث في آدق التفاصيل التي تساهم في مسخ السياسي, وجدنا فيها المؤلف ينحدر إلي أسرار وفضائح مؤلمة مازال أصحابها علي قيد الحياة. فهو المؤلف في تحرره من وصايا الخطاب السياسي أحرق خلفه الكثير من مراكبه الاجتماعية والسياسية ولكنه لم يعلن تنصله عن مسئوليته. أن محاولة الراوي للنيل من ضيوفه, خصوصا السياسي, لايمكن اختزالها بالثأر من رفاقه فهو ببساطة لايكرههم ولايستطيع اخراجهم من ذاكرته وكوابيسه رغم لجوئه في كثير من الاحيان الي الود الهادم لعالمهم المتصحر الذي يتغنون به ليل نهار. ففي سياق القص نلمس أن لانية عند الراوي للثأر للاعوام التي تفرقت والوجوه التي رحلت دون قبور, وليس لديه رغبة فردية للنيل من السياسي مع أن بينهما اندست أكثر من مفردة وأكثر من نظرة إلي زوجته الحسناء, بل يقف خلف ذلك حاجة وجودية لموازنة الخراب العام الذي حدث للراوي بعد سقوط المثال, وتاريخ من الصراعات الفكرية مع المؤسسة السياسية, إضافة الي رغبات وتأثير الكثير من أصدقاء ورفاق الراوي الذين شربوا من نفس الكأس الرواية لم تقدم شرحا تفصيليا لفلسفتها الحياتية وعرضت بدلا من ذلك نماذج مليئة بالبطولية والخيبة. فعلي الرغم من التجربة المأساوية ل إبراهيم السلامي في الحروب والسجون والجبال إلا أن سلوكه لايحاذي تجربته الحياتية, ملئ بالتناقض, يفتقد للايمان بالأفكار والاحزاب والقضايا الكبيرة التي بدد عمرا في الدفاع عنها. فهو يتفهم معاناة الصعلوك والمتشرد أكثر من تفهمه أصحاب المشاريع الوطنية والأممية, ينحني للعاهرة ويسخر من السياسي إبراهيم السلامي في سياق الاحداث لم يكن أفضل حالا من باقي الشخوص الذين سخر منهم وتهكم عليهم فهو الاخر يعاني من خراب وخذلان مضاعفين, بل هو يزيدهم خبثا وتلصصا وتناقضا. ففي الانتقال من فصل الي آخر يكشف لنا السرد عن مشكلة أن الشخص الذي خاض كل هذا التجارب ليس لديه في النهاية موقف سياسي راسخ وأن الظروف المحيطة به هي التي تتلاعب بمواقفه, ولو كانت قد سنحت له ظروف أخري لما جازف بحياته علي هذا النحو, ومناخ السرد يشير ولايفصح إلي أن قسوة وغباء الديكتاتورية وحصارها للمواطنين وتهدياتها الدائمة لسلامتهم هي التي صنعت من البعض أبطالا ومناضلين ليس إلا نصير عواد كاتب عراقي [email protected]