لم أكن قد حددت وجهتي بشكل دقيق عندما انتويت الخروج.. فقط استجبت لإلحاح شاذ غير تقليدي لرغبة تحركت بداخلي تحثني علي ترك المنزل فورا.. أطلقت لقدمي العنان لاختيار خطواتهما في حين كان عقلي وبقية جسدي تابعين مطيعين لهما.. اجتزت شوارع عديدة لم أعن بمعرفة أسمائها ولم أحرص علي تفحص تفاصيلها, كحرصي علي مواصلة السير.. خطواتي الجادة المسرعة توحي للناظر إليها بأنني قد حددت هدفي سلفا وعازم علي إتمامه.. وأنا بداخلي أعاني ومن حولي لايشعرون بمعاناتي ولايعبأون بي.. تتبعثر خطواتي فوق أوجه الشوارع.. تتراص اللقطات علي شبكية العين.. تتزاحم الصور.. تتدافع الكلمات.. تتفرق انفعالاتي علي يافطات المحلات وعلي وجوه السائرين.. تنشب مشاجرة حادة بين وعيي وغيبوبتي.. يثور وهن كامن بداخلي.. ترحل انتباهاتي.. تنسل الأحداث من ذاكرتي.. يبتلعني تيه عنيف, يحيل رأسي لمدينة صاخبة.. تتراءي أمامي الأشياء في خفوت.. تتعانق الحركات والسكنات.. تثور أحشاء الشوارع.. حافلات مسرعة.. صفارات انذار.. تصادم.. لجان تفتيش.. مطاردة.. دوي انفجارات.. كميات كبيرة من الزجاج المهشم تملأ الطرقات.. تترسب تحت جلدي وبين أصابعي.. تفزع سكوني.. عساكر مدججون بالسلاح يصوبون أنظارهم تجاهي, تتقدمهم كلاب بوليسية أنيابها مهيأة لتمزيق أي شيء.. يقتربون جميعا مني.. تدنو خطواتهم أكثر وأكثر.. أتهيأ للفرار, رغم يقيني من أنني فوق مستوي الشبهات.. تلتصق قدماي بالأرض.. أفشل في تحريكهما.. تصارع ذراعاي أمواج الهواء.. تزداد قدماي التزاجا بالأرض.. يزداد دنوهم مني.. لاأمل في النجاة.. انبطح علي الأرض معلنا الاستسلام.. أدخل في شبه غيبوبة.. خفق نعالهم يخترق أذناي.. تهدهدني ركلات أقدامهم الكثيفة المذعورة.. يتأرجح جسدي يمينا وشمالا.. تخف حدة الأصوات.. ينتهي ارتطام الأقدام بجسدي المطروح.. يعود إلي وعيي من جديد.. أري الحشد يرحل بعيدا عني.. تختفي صورهم تماما أمام ناظري.. أيقظتني الدهشة.. لم أكن المقصود بالمطاردة.. تهدأ العاصفة.. أرتفع.. ازداد علوا كأنني قد تحررت من جاذبية الأرض. ورغم كل ماحدث لم تراودني فكرة العودة إلي المنزل.. واصلت التبعثر في الطرقات.. توقفت أمام محكمة تمنيت لو أحاكم الوجود كله علي غير توقع مني تسللت إلي الداخل, فلم أهيم مطلقا بالمحاكم وليس لدي صديق واحد يعمل بالمحاماة, لكنه الملل وحب التمرد علي المألوف. تبوأت مقعدي في مقدمة الصفوف, مع عدم اقتناعي بما أصنع.. فكل الحاضرين قد أتوا يدفعهم شيء ما.. فبعضهم إما شغوف بالاستماع إلي القضايا, وإما أصحاب قضايا فعلا, وإما مكلفون بالدفاع عن متهمين.. أما أنا فلا معني لوجودي.. أحسست بأنني شاذ بحضوري, كغصن جاف في أوج الربيع.. شعرت كأنني دودة قد سقطت في خلية نحل. وفجأة صاح فينا شخص بدين ذو شارب عريض كث: محكمة.وقفت مقلدا الباقين عندما دخل القاضي متشحا رداءه الأسود, وكدت ألا أقف.. فلماذا نقف لشخص مثلنا جاء يتحدث إلينا؟ وماذا كان سيحدث لو لم أقف؟ أدركت أنها مغامرة غير محسوبة. لم يمض وقت طويل حتي رأيت القاعة كلها تصب لعناتها علي شخص ماكث في ركن القاعة خلف قضبان.. النيابة والمحامون وحاجب المحكمة وسعاتها والناس أجمعون.. يرددون بصوت واحد: الموت للمجرم.. الموت للسفاح. حتي القاضي لم يخف سعادته بما يصنع الناس, فقد ارتسمت علي وجهه الممتلئ ابتسامة عريضة بدت جيدا في انفراجة شدقية بشكل غير معتاد.. وأنا اكتفيت بدور المتفرج, فقد سحبت علي وجهي غطاء من الدهشة, ثم انسحب علي القاعة كلها هدوء مثير زاد من دهشتي وحيرتي.. كلهم يترقبون رده أو رفضه أو دفاعه, وكنت أنا الأكثر تشوقا لسماعه, فتكتلهم ضده أثار شفقتي عليه.. أخذ يتطلع في الوجوه, ثم أشاح بوجهه بعيدا كأنه ليس المقصود بكل مايجري.. أمره القاضي بالحديث أو بمعني أدق بالدفاع عن نفسه, فليس من العدل ولا من الجائز إصدار الحكم جزافا بدون دفاع أو مرافعة, وذلك بعد أن رفض هو توكيل محام ينوب عنه. أخيرا أخذت شفتاه وضع التأهب للحديث.. لم أتصور أنا ولا أحد الحاضرين أن هذا البائس الكائن خلف القضبان يحمل بداخله كل هذا الفيض المتدفق من البلاغة والحضور والشجاعة.. بدا وكأنه أحد الحكماء أو المصلحين, في حين يقول الواقع انه متهم يواجه خطورة بالغة.. لم أر في عينيه ضعفا أو خوفا رغم فداحة مايوجه إليه من اتهامات.. كل ماظهر عليه صلابة مثيرة غير مبررة.. عندما يتكلم يسرق منك انتباهك ولاتملك سوي أن تصغي وتترقب وتستمتع بدفء حديثه, كأنه بركان ثائر يقذفك بحممه الملتهبة فيذيب حضورك ويدخل وعيك في غيبوبة لذيذة.. هذا ماحدث حقا. بدأت الكلمات تتساقط من فمه, وبقلب متكسر يعكس غربة البشر في عالم الأهواء قال: كانت تمطر وكانت الريح تعوي.. وكان الظلام هذه الليلة أكبر من المعتاد, كأنه قد استولي علي نصيب ثلاث ليال أخريات من السواد.. وكان لزاما علي أن أرحل, وليس أشق علي الانسان من ترك بيته.. طردني صاحب المسكن وأسرتي بعدما عجزت عن دفع الإيجار المتأخر منذ أربعة أشهر, وهو التاريخ نفسه الذي استغني عني فيه مالك المصنع أنا وزملائي بعدما تملكه من الدولة, ولم تشفع لنا تلك السنون الطوال التي أهدرناها من عمرنا في بناء هذا الصرح.. رضيت بعبث الأيام.. مرغما سكنت الآخرة.. ارتضيت أن أحيا بين المقابر وفي حضرة الأموات, بعدما استحال العيش في كنف الأحياء.. تحصنت بوحدتي.. تدثرت بأنفاسي.. حددت إقامتي تحت جلدي.. ورحت أفتش عن حياة في قلوب الموتي, والأرض تميد بحلمي المعاق, ونذير الشيب قد أغشي سمائي.. إنني أعرفه جيدا منذ أن بدأ يزحف فوقي بخطي كريهة بطيئة, كخطي سلحفاة, ضاربة في الشيخوخة.. إنه شعور وحشي عنيف أن يموت جزء منك كل يوم حتي تموت بأكملك, وحتي تغتبط أولئك الذين يخطفهم الموت المفاجئ.. لكم قصم ظهري ذلك الشعور الهمجي.. أجهض بداخلي كل خلايا المقاومة ونزعات البقاء.. افترشت أحزاني.. جعلت من وجعي وسائد, وصرت أنخر في هيكلي المشيد بغير رغبتي.. أغترف من كأس المحال وأحتسي السهد في ليل مديد.. يصفعني المساء فألعق عثرات النهار.. تتلاقح الأحزان في كفي, وعيون دماء تتفجر في عمق الأعماق, حتي صار تفوهي معجزة وصمتي حصارا.. لم أحتمل.. أعلنت تمردي.. تقيأت ضعفي.. ذبحت جلالي الذي ظل مرتسما فوق وجنتي لزمن بعيد.. ضاجعت شيخوختي, تمخضت, فوضعتني بشكل المعدل.. أبرمت عقدا مع الشيطان, لأتلمس طريقي المستتر بين أروقة الظلام, لأبعث أحلاما ترملت في بدء تكوينها.. فكيف لي أن أعول خمسة أفواه ورصيدي في الحياة سالب مليون؟! نعم ياسادة, صنعت خبزا من عظام الموتي.. أقمت مزادا لبيع أعضائهم.. قدمت أكبادهم وكلاهم قربانا لتجار الحياة.. فعلت كل ذلك وأكثر, فقط من أجل أن يستمر توقيعي اليومي بدفتر الأحياء.. قضيتي ياسادة أنني ابتكرت وجودا وقد كنت علي مشارف العدم.. ثم سكت قليلا, كأنما يعطي لنفسه مهلة لالتقاط أنفاسه.. في حين كانت القاعة ماتزال تعج بالصمت والسكون.. أما أنا فشعرت بأنني أزداد ارتفاعا, كبالونة جوفاء في أيدي طفل لاه. ارتفعت عيناه عن الأرض, ثم التفت إلي القاضي التفاتة حانية, وأردف بصوت أقل حدة: هل سرت يوما وحيدا في ليلة باردة, حيث الثلوج تتهادي برأسك والسماء تمطرك بسخاء.. تعدو خطواتك وتتوغل في طريق لايؤدي إلي شيء؟ هل تصورت إحساسك وأنت تسير معصوب العينين بلا رفاق في ممر ضيق امتلأ بالحفر وزجاجات الخمر المهشمة؟ هل ارتديت يوما بذلة غطس وقفزت بها فوق رمال الصحراء وظللت تسبح بلا توقف حتي اقتربت من الشاطئ حيث قد امتلأت معدتك بالرمال ثم شكرت السماء لأنها المرة الأولي التي تمتلئ فيها معدتك بشيء؟ هل خطر ببالك أن هناك شيئا ماينغص عليك حياتك.. وأن بقاءك مع استمراره يعد مهزلة.. وأن ثمة روحا شريرة تسكنك وتهيمن علي مشاعرك وانفعالاتك, حتي انك لاتستطيع علي وجه الدقة تحديد موضع قدميك؟ نعم, حدث معي كل هذا.. تحملت الكثير دون ضجر أو سخط, وحتي دون أن أشكو السماء.. لست مذنبا.. لم يشك أحد من الموتي إليكم!! هم سعداء بما أفعل.. أجزاء منهم تمنح الحياة للآخرين..أطلقوا سراحي الآن فأنا العاقل الوحيد في هذا العالم المجنون.. أطلقوني, وليحل محلي صاحب المسكن, ومالك المصنع, وصاحب المستشفي الاستثماري الذي ابتاع مني, وحارس المقابر, والموتي. وبعد هذه المرافعة الطويلة التي تشبه الخطب التي يلقيها الساسة والوعاظ, عاد من جديد إلي انصرافه عنا.. هنا ارتفعت الأصوات.. توقدت الحناجر بكلمات أشبه بالقذائف.. احتضر الصمت.. انتبه الوعي المغتصب انقسم الحاضرون بين مطالبين بالبراءة وساخطين يطلبون أقسي عقوبة في حين أصاب الخرس القاضي والنيابة والمحامين وحاجب المحكمة الصداح.. أما أنا فقد كنت منشغلا بتجميع ماتناثر مني.. كان جسدي يتفكك.. وأجزائي تنصهر.. تتنافر.. سكنتني قوي غريبة عازلة.. نجحت في إشعال ثورة بأنحائي.. باعدت بين أعضائي.. صنعت أخدودا هائلا بأعماقي.. تقازمت رغبتي في التوحد.. فشلت في إعادة التنامي.. صرت أربعة أجزاء حرة مستقلة.. عزت فوزي الحجار الشنطور سمسطا بني سويف