يتراجع التاريخ ليكون مكانه أرفف الأرشيف أو صالات الدرس الجامعية وأوساط المثقفين. فالمجتمع الاستهلاكي لا يحتاج إلي التاريخ بل يحتاج إلي روح التعلق بكل ما هو جديد والجديد هو ما لم يعرف من قبل أي أن امتلاكه هو تميز لمن يملكه عن هؤلاء ممن مازالوا لا يمتلكونه. يجب علي الجميع التعلق بكل ما هو جديد فإن هذا هو المحرك الأساسي للرغبات و التطلعات ومن ثم المكاسب والأرباح..... لذا فإن التاريخ يعني كل ما هو عكس ذلك. والأمريكيين لديهم تعبير شديد التلخيص لما نقصد فهم يطلقون علي الشخص المتمسك بأي شيء قديم( أغاني البيتلز علي سبيل المثال) بأنه شخص تاريخ(youarehistory) ومن هنا فإن التاريخ يأخذ معني سيئا( حتي لا نقول سبة) في تلك الثقافات. أما نحن مع الجهل الشديد بتاريخنا والتزييف الأشد لماضينا وعدم وضوح المستقبل بالنسبة للكثيرين منا, أصبح لدينا فصيلان سائدان..... فصيل لا يعلم أي شيء عن شيء فيما يخص تاريخنا أو التاريخ بصفة عامة, ولايريد أن يعرف..... وفصيل آخر يعرف بعض فتات التاريخ المزور والمبتسر ويحاول العيش فيه أو بمعني أصح يري فيه العصر الذهبي الذي ليته يعود. يشمل هذا عصور الأسرة العلوية, وزمن الاحتلال الانجليزي أو حتي عصور الخلافة العثمانية التركية. العدوي انتقلت للكثير من المجالات التي من المفترض أن تكون أكثر وعيا بما فيها الصحافة والفن والدراما, ومسلسلات الراحلين من مطربين وملحنين وممثلين وأخيرا ملوك وأمراء لخير دليل علي شعبية هذا الاتجاه الذين يلعب علي الحنين ورسم ماض مزيف يساعد علي الهروب إليه. الغرب الأوروبي يتعامل مع التاريخ معاملة مختلفة عن تلك التي نتعامل بها نحن, فالتاريخ عندهم لتوضيح ما حدث حتي لا يحدث من جديد, هذا لا يعني أنه ليست هناك محاولة لتزييف هذا التاريخ وطمس الكثير من الحقائق, مقصودة أو غير مقصودة, لكن حالة الوعي التاريخي في القارة القديمة تخلق الكثير من حركات التصحيح التاريخي ودحض كل الخرافات والاساطير والتزييف والطمس, ولعل قضايا الصراع العربي الفلسطيني مع الكيان الصهيوني, لخير دليل علي عدم قدرة تزييف الحقائق وطمس التاريخ في النجاح طوال الوقت, فبالرغم من كل السيطرة علي العقل الجمعي الأوروبي ورسم الحقائق من قبل التيار المؤيد لإسرائيل فإن هناك تيارا لايستهان به من الجمهور الأوروبي يساند حق الشعب الفلسطيني في الحصول علي دولته المستقلة ويدين الممارسات الاسرائيلية. في مسار احتفاء فرنسا بتاريخ السينما يتم عرض فيلم نادر من أفلام المخرج ميلوش فورمان, الفيلم يحمل عنوانTakingOff وهو من انتاج عام1971. ميلوش فورمان لمن لا يعرفه هو المخرج التشيكي الذي لمع من خلال السينما التشيكية مع العديد من الأفلام لعل من أهمها( مذكرات شقراء1965) و( رجال الإطفاء1976), قبل أن يذهب إلي أمريكا ويقدم العديد من الأفلام الكبري في السينما الأمريكية التي حصلت علي العديد من جوائز الأوسكار( طار فوق عش الوقواق1975 شعر1979 أماديوس1984 وغيرها), إعادة عرض هذا الفيلم وما صاحبه من اهتمام اعلامي يوضح أهمية التاريخ في الفكر الأوروبي وعلاقة الماضي بالحاضر وليس فقط عبر الحنين. الطرف الثاني في هذا الفيلم النادر والذي يجعل منه ذا قيمة هو كاتب السيناريو الفرنسي الشهير جان كلود كاريير الذي عمل مع كبار المخرجين في تاريخ السينما منهم علي سبيل المثال لا الحصر لوي بونويل, لوي مال, باتريش شيرو, فيليب دي بروكا, شولندورف, جان لوك جوداروغيرهم. للتعرف أكثر بمن هو جان كلود كاريير نقول انه كاتب السيناريو لأفلام( بورسالينو),( الجاذبية الخفية للبرجوازية),( الطبل الصفيح),( سيرانودي برجيراك)( الخفة غير المحتملة للكائن) وهي كلها أفلام شهيرة في تاريخ السينما و حصلت علي الكثير من الجوائز هذا بجانب كونه ممثلا في الكثير من الأفلام. جاء ميلوش فورمان إلي فرنسا من أجل تقديم فيلمه( رجال الإطفاء في مهرجان كان, لكن أحداث1968 في فرنسا أدت إلي إلغاء المهرجان, و هي الدورة التي تظاهر فيها جان لوك جودار وتعلق فرنسوا تريفوا بستارة مسرح المهرجان لمنع الافتتاح, كما جلس مخرجو الموجة الجديدة علي سلم قصر المهرجان لمنع الحضور من الدخول. لقد كان هذا العصر هو عصر التمرد فشباب فرنسا ثار علي حكم الجنرال ديجول, في حين كانت حركة الهيبز في الولاياتالمتحدة تعلن الحرب علي حرب فيتنام القذرة و تدعو للسلام والحب. في ظل هذا الجو عاد ميلوش فورمان إلي باريس مصدوما لعدم عرض فيلمه في المهرجان... لقد تم إلغاء المهرجان ولكن صدمته الكبري جاءت مع أحداث ربيع براغ, حيث دخلت القوات السوفيتية إلي تشيكوسلوفاكيا لتقمع الدبابات السوفيتية تطلع التشيك للديمقراطية. ظل فورمان في فرنسا ولم يرحل مجددا إلي بلده تشيكوسلوفاكيا التي دهست الدبابات السوفيتية ربيعها. لا يجد فورمان مكانا له في باريس التي تموج بالثورة سوي بيت الصديق جان كلود كاريير الذي تعرف عليه في مهرجان كان فيستضيفه في منزله لتكون تلك بداية علاقة صداقة فنية أثمرت العديد من الأفلام المشتركة منها( فالمون, وشبح جويا). [email protected]