في الرابعة من عمري, ذهبت إلي كتاب فضيلة الشيخ المرحوم محمد أبو حسبو, وهو ابن عمتي أم محمد, شقيقة أبي الكبري, أذهب إلي الكتاب وكنا نسميه المكتب في حوش أمام منزل الشيخ تتوسطه أشجار النخيل, وفي وسطه عين ماء متفجرة, وعلي حوافه سور من طين, نصطف جلوسا تحتها, إلي أن يستدعي الشيخ أحدنا, وهو جالس علي حصيرة تحت جذع نخلة, فنهب إليه في أيدينا لوح من صاج, يتم انتزاعه من علب السمن الكبيرة, فنبدأ بتسميع الدرس القديم, وكنا نسميه الماضي ثم يغمس الريشة في المحبرة ويكتب لنا الدرس الجديد, وكنا نسميه الحاضر, ويتوالي علينا واحدا واحدا وبعد ذلك نعود إلي الجلوس صفا تحت سور الجدار, ويتلو علينا الآيات ونحن نرددها خلفه بصوت عال, بإيقاع منتظم, بموسيقي هادرة. كنا نحب الشيخ محمد أبو حسبو, لم يكن يضرب ولا يشتم ولا ينهر, و هذه الصفات فيه لم تكن تعجب الآباء والأمهات الذين كانوا يعانون شقاوة أطفالهم, ويودون لو يتولي الشيخ مهمة تهذيبهم وترويضهم. كان ينافسه مكتب أو كتاب المرحوم الشيخ إبراهيم أبو غريب, ولكننا نفضل الشيخ محمد لأننا كنا نسمع أن الشيخ إبراهيم يضرب بالفلكة, ويمد علي الرجلين, وأن كتابه مؤسسة للتهذيب والاصلاح من خلال العقاب والترويع. بقيت لسنوات طوال أخاف الشيخ إبراهيم حتي بعدما كبرت, وربما إلي اليوم استشعر الوجل والرهبة حين أمر علي الشارع, حيث كان يسكن وحيث كان ينصب الفلكة.. لم أكن أجد الأنس في الزحام, أشعر بأنني في مدعكة, ونحن نذهب جريا وهرولة, ونحن نتصرف في اضطراب وفوضي. نرتدي الجلاليب, ننتعل شباشب بلاستيكية قاسية, تحز في القدمين وتؤلمهما بما يجعل الحفاء نعمة, حيث تتخلص القدمان من مصدر الأذي, نخلع الأحذية وتفرح الأقدام بالتحرر وتلامس الأرض في شوق وفرح, ونستكمل رحلة العودة إلي الديار ونحن حفاة ولكننا أحرار. أمي العظيمة ترسلني وتستقبلني وهي تناديني, الشيخ أنور. اتصلت بي, ليلة الإسراء والمعراج, كل سنة وأنت طيب.. وتذكرت لوح الصاج بخط يد الشيخ محمد من أوائل سورة النجم.. والنجم إذا هوي, ما ضل صاحبكم وما غوي, وما ينطق عن الهوي, إن هو إلا وحي يوحي ما أروع الآيات, ما أحلي الذكريات.. ما أطيب الأمهات.. كل سنة وأنتم طيبون!