علي مدار التاريخ, ومحاولات هيمنة بعض الدول علي دول أخري لا تتوقف, ومع تطورات الحياة بمناحيها المختلفة تطورت أساليب السيطرة والاستعمار لتنتهي تقريبا الاساليب الغاشمة لاحتلال أو إخضاع الدول وتحل بدلا منها الاساليب الناعمة أو ما يمكن أن نطلق عليها الاساليب السرطانية حيث تنتشر صامتة دون ضجيج إلي أن تتمكن من إخضاع فريستها والتهامها تماما. في ظل هذه الحروب والمؤامرات كانت مصر دوما هدفا عصيا علي محاولات الاحتلال والسيطرة وكان سد مصر المنيع في مواجهة هذه المحاولات هو تمسكها بهويتها وثقافتها فأثرت في من حاول التأثير عليها ولم ينجح الإنجليز أو الفرنسيون حتي في تحقيق انتشار ولو محدود للغتهم بين أفراد الشعب المصري. ولكن ومنذ سنوات قليلة مضت وسرطان طمس الهوية المصرية عن طريق طمس لغتها العربية ينتشر بخبث دون انتباه أو التفات منا جميعا إلي خطورة ما يحدث. القضية ليست في بعض كلمات يستخدمها الشباب بين سطور اللغة العربية كعلامة علي معرفته باللغات الأجنبية ولكنها تعدت ذلك بمراحل كثيرة فأصبحت نسبة ليست قليلة تستخدم بعض الكلمات العربية القليلة وسط حديث متصل باللغة الإنجليزية. بل إن نظرة سريعة علي واجهات المحال التجارية في جميع شوارع مصر توضح لنا حجم الكارثة التي نتغافل عنها فالأسماء والحروف الإنجليزية أصبحت صاحبة النصيب الأكبر من أسماء المحلات والمطاعم وإن وجد اسم عربي فإنه يكتب بحروف انجليزية وبالتالي لم يعد غريبا أن تجد الكلمات العربية قد انحسرت في دائرة الحياء لتصبح علي أبواب الاندثار خلال فترة ليست بالطويلة, وهنا وعلي سبيل المثال أصبح من المألوف أن تعقد مؤتمرات كثيرة في مصر حضورها الاكبر من المصريين أو العرب ومن أجل مشاركة أجانب لا يتعدون العشرة تكون اللغة الاساسية للمؤتمر هي اللغة الانجليزية ويلهث المصريون والعرب إلي أجهزة الترجمة الفورية حتي يتمكنوا من متابعة المتحدثين بالإنجليزية.. هي مأساة بلا شك واعتراف صريح بالتبعية والتفريط في لغتنا وسيرنا دون هدي نحو التغريب بما يحمله من مخاطر جسام. إنني أتحدي أن توجد لافتة باللغة العربية في أي بلد أوروبي أو في أي شارع بالولايات المتحدةالأمريكية أو يعقد مؤتمر تكون لغته الرئيسية غير لغة البلد الذي يعقد علي أرضه أقول: لا يمكن أن تجد ذلك رغم أن المستثمرين والسياح العرب والمتجنسين من أصول عربية يشكلون أعدادا كبيرة في هذه الدول. خطورة الأمر أن الشباب أصبح يستخدم أيضا ما يطلق عليه الفرانكو أرب وهو ما يتمثل في كتابة الكلمات العربية بحروف انجليزية في مزيج غريب ربما يتعامل البعض منا معه بالاندهاش والبعض الآخر بالتفاخر والتباهي ليصبح معظمنا يتحدث عن أطفاله والابتسامة تغطي قسمات وجهه بأنه يواجه صعوبة شديدة في التواصل معهم لأنهم يتحدثون الانجليزية أو الفرنسية بطلاقة ولا يستطيعون التعبير عن وجهة نظرهم بالشكل الصحيح إذا ما تحدثوا اللغة العربية. وبين مناد بترك الشباب لينفتحوا علي الثقافات الاجنبية وبين سلبية واستسلام البعض الآخر تخبو لغتنا رويدا رويدا وتضيع معها قيم وتقاليد سوف ندفع جميعا فاتورتها عندما تكتمل أضلاع مثلث شيطنة العالم العربي عندما يتولي جيل تربي علي ثقافة الغرب مقاليد الأمور في عالمنا العربي. إن اللغة بالنسبة للشعوب هي عصب الهوية وعمادها الأصيل.. هي ليست وسيلة تخاطب وتواصل فقط ولكنها تحمل بين حروفها ثوابت أمة وتاريخ شعوب. المسئولية بلا شك تقع علينا بصفة أساسي كأطراف ثلاثة أولها نحن أولياء الأمور باستمرائنا لما يحدث أو استسلامنا له ثم تأتي وبقدر أكبر علي وزارة التربية والتعليم التي تعطي الموافقات والتراخيص لمدارس اللغات والمدارس الأجنبية دون أدني معايير تحافظ علي لغتنا وهويتنا, وأتساءل: كيف لأي وزير أن يقبل أن تصبح لغته الأم غريبة في مدارس هو من يعطي التراخيص لها؟ انني يمكن أن أتقبل ان يكون تدريس بعض المناهج باللغات الأجنبية ولكن ما لا يمكن قبوله هو ان تكون اللغة العربية هي مجرد مادة ضمن عشر مواد يتم تدريسها باللغات الأجنبية وفي نسبة أصبحت تجاوز نسبة المدارس غير الاجنبية في أراضي المحروسة. وهنا فإنني أطلب من وزير التربية والتعليم عندما يقوم بزيارة أي مدرسة من مدارس اللغات أن يسأل أي طالب أو طالبة عن جدول الضرب مثلا باللغة العربية ثم باللغة الانجليزية وأعتقد أن الاجابة لن تسعد الوزير وسوف يتيقن وقتها إلي أي مدي أصبح الخطر محدقا والتحرك السريع ضرورة لا تحتمل ترف التريث أو الانتظار. ويأتي ثالث الاضلاع متمثلا في المحليات بدءا من وزير التنمية المحلية والمحافظين وانتهاء برؤساء الأحياء الذين تركوا الساحة خالية لأصحاب المحلات ليفعلوا ما يريدون دون أي ضوابط أو عقاب.أستطيع أن أقول: إنني أصبحت أخشي يوما قد لا يكون بعيدا أشعر فيه بالاغتراب في وطني.. يوم استيقظ فيه علي صوت المذياع قائلا هنا كايرو أو إيجبت تو داي.