حدثتكم قبلاً عن أزمة لغتنا الجميلة التي ساهمت أبلة زهرة مدرسة العربي في مدرستي الابتدائية في تكريس وعيي بها وضخامتها، واختصرت حديثي المقتضب بأنها أزمة أمة قبل أن تكون أزمة لغة.. وكنت أظن أن حديثي هذا ربما لن يروق لكثيرين ممن لايجدون أي غضاضة في إهمال العربية تحيزاً للغات الأجنبية التي تفتح أمامهم أبواب النجاح في الداخل والخارج.. ولكن بعضاً من ردود الأفعال التي وصلتني علي ما كتبت أحيت في الأمل من جديد في مزيد من الاهتمام بلغتنا الجميلة وإحيائها من جديد.. وهأنا أعاود الكتابة في نفس الموضوع.. لعل وعسي نستطيع إعادة الروح إليها فيعود للعرب مجدهم القديم. يشهد التاريخ أن مصر كانت دائما هي البوتقة التي تنصهر فيها كل الثقافات والحضارات ولم تنصهر في أحد، فمثلا عندما غزاها الهكسوس تمصَّروا ولم يستطيعوا فرض لغتهم وديانتهم علي المصريين وحدث نفس الشيء مع الفرس والبطالمة والرومان.. نحن الذين علمنا كليوباترا هي وكل الغزاة كيف يكونون مصريين، ولكن الأمر اختلف الآن مع جيل أبنائنا وأصبح من الصعب بل من المستحيل الاحتفاظ بالهوية العربية أمام الهجمة الشرسة لتلك العولمة التي فرضت نفسها الآن بقوة. فهاهي المحلات والشوارع تحمل أسماء أجنبية مكتوبة بلغة إنجليزية أو مكتوبة بحروف عربية ولكن نطقها أجنبيا وهذا أسوأ وأضل سبيلا، بل إن بعض الآباء والأمهات يتخاطبون مع أبنائهم باللغة الإنجليزية ويتفاخرون بأن لغتهم العربية ضعيفة وأنهم يتحدثون اللغات الأجنبية بطلاقة ويحاولون حشر بعض الكلمات الأجنبية في كلامهم حتي يقال عنهم إنهم مثقفون ومتحضرون. وهي كارثة لو تعلمون كبيرة. أما المناهج التعليمية فقد تسببت بعشوائيتها في تخريج جيل جديد من الطلاب لا يعرف شيئاً عن لغته؛والأدهي والأخطر أننا رحنا نسخر من كل مايمت للغتنا بصلة في كل إنتاجنا الدرامي من أفلام ومسرحيات ومسلسلات وغيرها حتي الإعلانات في الشوارع تستحي من اللغة العربية وتأبي إلا أن تخاطب جمهورها باللغة الإنجليزية كأنما ترفض أن يكون من بين عملائها من لايعرف الإنجليزية وتحت هذه الحروف راحوا يعلنون عن أي شيء وكل شيء بدون حياء وكأنما يتسترون وراء هذه الحروف ليصلوا إلي الطبقة التي يريدون التعامل معها دون غيرها..وحتي اللافتات التي تكتب في الشوارع لإرشاد السائقين والمشاة تكتب بالإنجليزية أو بلغة عربية بها الكثير من الأخطاء . وعلي واجهات المحلات رحنا نري ''بيوتي سنتر'' و''سوبر ماركت'' و''جاليري'' وحتي من لديه قط أو كلب يسميه اسما أجنبيا، وأسماء معظم المنتجات في الأسواق أجنبية رغم أنها مصرية وفي الشركات حلت كلمة ''مستر وميس'' محل كلمة أستاذ وأستاذة وكذلك في المدارس أصبحنا نقول: ''كي جي وان'' و''كي جي تو'' وعند الانصراف نقول ''باي'' بدلا من مع السلامة أو السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وياليتنا جميعاً نتبني دعوة لسن قانون يمنع أصحاب المحلات وشركات الأدوية من تسمية المحلات والأدوية بأسماء أجنبية، فما دام الدواء يصنع في مصر ومن قبل شركة مصرية فالأولي به هو الاسم العربي، ويجب توقيع غرامة علي المخالفين، وهناك طفل ما قبل المدرسة يحفظ الكثير من الكلمات الأجنبية ويفرح به أهله حينما يتلفظ بها فلماذا لا نحفظه بيتا من الشعر العربي البسيط يحوي كلمات عربية كحصيلة لغوية. وكذلك الألفاظ الجديدة بين الشباب إنها أخطر ما يكون علي اللغة العربية. وقد ساهمت الأغاني الهابطة في ترويج مثل هذه الكلمات التي يعف اللسان عن ترديدها. ويجب أن يكون للمجمع اللغوي دور حيالها. أيضاً، اسمحوا لي أن أحدثكم عن فن جميل وثيق الصلة باللغة العربية إنه فن الخط العربي، أين هي الآن كراسة الخط وكيف تبدلت خطوط مدرسي اللغة العربية إلي هذا المسخ بعد أن كان مثل سلاسل الذهب وهو المصطلح الذي يوصف به الخط الجميل ولماذا أغلقت مدارس تحسين الخطوط التي كانت تملأ حياتنا زمان، فالخط العربي يعتبر من أجمل الخطوط في العالم ويكفي أن نعرف أنه عندما سقطت الأندلس في يد الأسبان وقاموا بتدمير القصور والمساجد وكل شيء يخص المسلمين كان الرجل الأندلسي يأخذ اللوحات المكتوبة لإعجابه بروعتها وجمالها ويعلقها ببيته كلوحة جميلة وهو لا يعلم أن ما علقه علي جدران بيته هو عبارة: ''بسم الله الرحمن الرحيم'' أو ''الله أكبر'' أو آية قرآنية. نعلم أنه منذ بداية القرن الماضي أبتلينا بالاستعمار الذي سعي إلي هدم اللغة العربية في جميع أنحاء الوطن العربي والإسلامي، وصولا إلي تحقيق هدفه الكبير وهو تقويض أركان ديننا وإضعاف قوميتنا وتفتيت وحدتنا، كما شجع الدخلاء علي آدابنا ولغتنا كي يحطموا القواعد والأصول والضوابط لها حتي يختلط الأمر علي كثير منا فلا نعرف الخطأ الشائع من الصواب المهجور، وكان من نتيجة ذلك أن انتشرت الأخطاء في النطق والكتابة حتي بين المثقفين والكُتَّاب ومحرري الصحف والمجلات ومقدمي نشرات الإذاعة المسموعة والمرئية، وبهذا يكون الاستعمار قد فشل في احتلالنا عسكريا ولكنه نجح في احتلالنا ثقافيا؛ ففي الجزائر تم طمس الهوية العربية وإحلال اللغة الفرنسية محلها كما فعل ذلك في دول إفريقية أخري مثل أوغندا وجنوب إفريقيا، وفي مصر بدأ الغزو الثقافي واللغوي مع قدوم الحملة الفرنسية عام 1798 ثم الاحتلال الإنجليزي عام 1882 ووجود الجاليات الأجنبية المختلفة. ولكن هناك شعوبًا أخري تعرضت مثلنا للاحتلال عسكريا بل ربما لسنوات أطول مما تعرضنا له، ولكنها قاومت كل مظاهر الاحتلال الثقافي، إنها تستحق الوقوف أمامها احتراماً وإجلالا.. في الأسبوع القادم نستعرض هذه التجارب إذا شاء الله.