عندما قامت القوات المسلحة الإسرائيلية بالهجوم البربري والإجرامي علي القافلة البحرية الحرية التي انطلقت من الأراضي التركية حاملة مجموعات من المدنيين الأبرياء يرفرف عليها العلم التركي الأحمر بهلاله ونجمته; كان ذلك يشكل أول اختبار حقيقي للسياسة التركية, والدور الإقليمي التركي في الشرق الأوسط. فمن الناحية الإسرائيلية لم يكن في الأمر مفاجأة كبيرة خاصة مع وجود حكومة بنيامين نتنياهو المتحفز مع وزير دفاعه يهودا باراك لاستعادة ما يسمونه قوة الردع الإسرائيلية, فضلا عن التقاليد الإسرائيلية الثابتة في العدوان والعنف والإرهاب كلما لاحت الفرصة; كل ذلك يجعل من السلوك الإسرائيلي أمرا متوقعا. ولكن الاختبار الحقيقي كان موجها في اتجاه تركيا التي ظهرت في سماء المنطقة خلال الأعوام الأخيرة بعد عزلة طويلة عن الشرق الأوسط استمرت منذ الإعلان عن نهاية الإمبراطورية العثمانية وفقا لاتفاق لوزان في24 يوليو1923, وإعلان الجمهورية التركية في29 أكتوبر في نفس العام وحتي عام1983 عندما أخذت الدولة التركية خطوات مترددة في الاقتراب من حزام جنوب الدولة بدأها الرئيس التركي تورجوت أوزال. ولكن ما كان مترددا مع العقدين الأخيرين من القرن العشرين, أخذ في التسارع مع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وخاصة بعد أن تولي حزب التنمية والعدالة الحكم بميوله الإسلامية المعتدلة والمعروفة, ومن وقتها أصبح الدور الإقليمي التركي ملحوظا مرة تحت اسم الجسر ما بين أوروبا والشرق الأوسط, ومرة أخري تحت اسم الدور المتوازن بين العرب وإسرائيل, ومرة ثالثة تحت عنوان المشاركة في عملية السلام خاصة بين سوريا وإسرائيل, ومرة رابعة بالدفاع عن الحقوق الفلسطينية, ومرة خامسة كان كل ذلك تحت عنوان استراتيجي لافت للنظر عرف باسم العثمانية الجديدة حيث بدت الدولة التركية وقد خلعت عمامة السلطنة والخلافة ولبست قبعة الاتحاد الجمركي مع أوروبا, ولكن الرأس التركية بقيت دائما علي حالها تحاول وتسعي لتعظيم المصالح التركية. وعلي مدي تسعة عقود تقريبا أخذت الدولة التركية عددا من الصور في منطقتنا كانت أولاها صورة الدولة الآفلة التي لم ينجح أهلها في حماية آخر أشكال الخلافة الإسلامية فيها. ورغم أن الذئب الأغبر كمال أتاتورك حاز علي إعجاب كثرة من الضباط العرب, إلا أن الصورة الثانية لتركيا الأطلنطية التي توثقت فيها علاقات أنقرة مع واشنطن بأكثر مما كانت مع كل حلفائها الآخرين كانت هي التي ولدت الشكوك طوال عصر الحرب الباردة في مدي ولاء تركيا لأصولها الشرقية أو أنها حيث توجد طرواده قد ذهبت إلي أصول أخري غربية حدث أنها هذه المرة في واشنطن. ولكن الحرب الباردة انتهت علي أي حال وعادت تركيا إلي الظهور في صورة واحدة من النمور الاقتصادية البازغة كان أول ملامحها الظهور التركي في عالم مقاولات الدول العربية المنتجة للنفط; وبعد ذلك ظهرت ملامح أخري لقوة صناعية متقدمة. وكانت القصة التركية لا تختلف كثيرا عن قصص الدول النامية الأخري التي جعلت الدولة مناطا لتوظيف المواطنين, وتشغيل الصناعة, والتحكم وإدارة الأسواق, بحثا عن عدالة مضمونة ومزعومة تملك الحكومات المتعاقبة تطبيقها. ومع مطلع الثمانينيات, وبالتأكيد مع التسعينيات من القرن الماضي أخذت تركيا تتحرر من عباءة, أو قيود التحكم الحكومي في الاقتصاد, وانتقلت بخطوات متسارعة إلي اقتصاد السوق. وعندما جاءت حكومة العدالة والتنمية إلي السلطة كانت أكثر إخلاصا لاقتصاد السوق من كل سابقيها, والأكثر أهمية أنها أخذت مقاييس ومعايير الاتحاد الأوروبي وراحت تطبقها تطبيقا حرفيا من أول إجراءات التحرر المعروفة والخصخصة وحسن الاستقبال لرأس المال الأجنبي. وكانت النتيجة باهرة بكل المقاييس حينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي مقوما بالقدرة الشرائية للدولار880 مليارا عام2008, وبذلك أصبح نصيب الفرد من الناتج المحلي12479 دولارا وهو الحد الذي وضع تركيا علي أعتاب الدول المتقدمة. وخلال الفترة من2002 إلي2007 حققت تركيا معدلا للنمو في المتوسط قدره7.4%, ورغم كل ظروف الأزمة الاقتصادية فقد حققت4.5%, في العام2008 وفي عام2009 كان الإنجاز5.1%. وكان وراء ذلك كله الإجراءات التي اتخذتها تركيا لتحرير اقتصادها, وبزوغ الصناعة لكي تشكل30% من الناتج المحلي, وحسن الاستقبال لما يصل إلي21 مليون زائر و22 مليار دولار من الاستثمارات الخارجية في عام2008. وقد انعكس هذا التقدم الاقتصادي علي علاقات تركيا بالشرق الأوسط حيث وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا والدول العربية في عام2009 إلي نحو22.4 مليار دولار, وفي حين بلغ حجم واردات الدول العربية من تركيا14.5 مليار دولار, بلغ حجم صادرات الدول العربية إلي تركيا نحو7.9 مليار دولار, بينما ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا وإيران إلي12 مليار دولار تطمح تركيا في زيادتها إلي20 مليارا, فيما وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل إلي2.5 مليار دولار. صورة الدولة المتقدمة هذه ما لبثت أن أخذت صورة جديدة خلال العامين الأخيرين, وشاع القول فيها أنه مع القوة الاقتصادية التركية الصاعدة فإن ذلك لا بد أن يولد فائضا من القوة يسمح باتباع سياسة خارجية نشطة. وهو ما حدث عندما بدأت تركيا تتحرك بإقدام داخل الشرق الأوسط وفي قضايا مثل العراق وإيران وبالطبع القضية الفلسطينية, وفي البداية كان الدور التركي ساعيا إلي لعب دور الوسيط والجسر والمستفيد أيضا من علاقاته الوثيقة مع إسرائيل والولايات المتحدة من ناحية وعلاقته الحميمية المتصاعدة مع العالم العربي. ولكن سرعان ما بدأ الدور التركي يأخذ صورة شعبوية متزايدة لم يكن مفهوما عما إذا كان استمرارا لنفس فائض القوة السابقة الإشارة إليها أم أنه يصعب علي قوة سياسية أيديولوجية أن تستمر علي واقعيتها العملية لفترة طويلة وأنها في النهاية لا تريد إدارة الدولة إدارة رشيدة بقدر ما ترغب في قيادة حركة الجماهير إلي أهداف تاريخية. مثل هذه السياسة, كما حدث مع دول شرق أوسطية كثيرة من قبل, كان لا بد لها أن تتعرض لاختبارات صعبة ظهرت في عدد من القضايا الرئيسية. الأولي, فشل الجهود التركية في الوصول إلي تسوية سلمية في المفاوضات غير المباشرة التي جرت بين إسرائيل وسوريا برعاية تركية عام2008, فبعد أن قطعت شوطا طويلا عادت إلي مربعها الأول من جديد خصوصا بعد الحرب الإسرائيلية علي قطاع غزة في أواخر عام2008 وبداية عام2009, والثانية, عدم خروج المحاولات التي بذلتها بعض القوي الإقليمية ومنها تركيا لاحتواء العراق وملء الفراغ المحتمل بعد الانسحاب الأمريكي عام2011 بنتائج تذكر, فقد ظهرت دعوات لتكوين محور رباعي يضم سوريا وتركيا والعراق وإيران, لكنها لم تترجم إلي واقع بسبب الخلافات القائمة بين أطرافه, لاسيما بين سوريا والعراق, فضلا عن وجود تباينات تركية إيرانية في التعامل مع التطورات السياسية العراقية. والثالثة, عدم نجاح المساعي التركية لتحقيق مصالحة بين حركتي حماس وفتح, حيث فشلت في إحداث توافق في وجهات النظر بين الطرفين, بل إن استضافتها لوفد حماس الرباعي بقيادة خالد مشعل عام2006 أثارت ردود فعل عنيفة من جانب أطراف داخلية وخارجية. والرابعة, توقيع الاتفاق الثلاثي مع إيران والبرازيل في17 مايو2010, الذي يقضي بأن تكون تركيا هي المكان الذي يتم فيه تبادل1200 كيلو جرام من اليورانيوم الإيراني منخفض التخصيب( بنسبة3.5%) ب120 كيلو جراما من اليورانيوم عالي التخصيب( بنسبة20%). فهذا الاتفاق الذي وصفته أنقرة ب الإنجاز التاريخي أنتج تداعيات سلبية علي جهود تركيا للعب دور إقليمي مميز, لأنه وضعها في مرمي الانتقادات الدولية. أما الخامسة والأخيرة, فتتمثل في الأزمة التي نشبت مؤخرا بين تركيا وإسرائيل علي خلفية الهجوم الإسرائيلي علي قافلة الحرية التي كانت تضم ثلاث سفن تركية وسفينتين من بريطانيا, بالإضافة إلي سفينة مشتركة بين كل من أيرلندا واليونان والجزائر والكويت, وكانت تحمل مساعدات إنسانية لقطاع غزة بالإضافة إلي750 ناشطا متعاطفا مع أهل غزة. وقد انطلقت السفن التركية الثلاث من مدينة اسطنبول, والتقت مع السفن الأخري قبالة مدينة ليماسول في جنوب قبرص, قبل أن تتوجه إلي القطاع في29 مايو2010 بهدف كسر الحصار المفروض علي قطاع غزة في31 مايو2010, وقد أسفر الهجوم الإسرائيلي علي القافلة عن مقتل19 شخصا منهم ثمانية أتراك وأمريكي من أصل تركي. وهكذا بدأت الدراما الإنسانية التي لعبتها قوي إسرائيلية شريرة علي جانب, وقوي خيرة تحاول أن تدق الأجراس من أجل إنقاذ شعب طال حصاره. وربما كانت الأوضاع في غزة جديرة بمقال آخر, وعلي أي الأحوال فإن مصر تدخلت لكي تقدم الإنقاذ المطلوب لأوضاع صعبة, ولكن موضوعنا هو تركيا الدولة ذات الإمكانات والقدرات الكبيرة التي يمكنها تشكيل إضافة لقدرات التقدم والتنمية والسلام في المنطقة. ولكن مثل ذلك لا يتحقق دون حسابات دقيقة جديرة بحكمة الدول والقادة, وتكون معنية بالأهداف وإنجازها بأكثر من تسجيل المواقف في لحظات قاسية أو الاستجابة لنداءات جماعات أيديولوجية معنية بالشعار بأكثر مما يعنيها تغيير الواقع. وربما كانت تلك هي القضية التي ليس فقط علي تركيا إدراكها وإنما كل دول المنطقة!. علي مدي تسعة عقود تقريبا أخذت الدولة التركية عددا من الصور في منطقتنا كانت أولاها صورة الدولة الآفلة التي لم ينجح أهلها في حماية آخر أشكال الخلافة الإسلامية فيها. مع التسعينيات من القرن الماضي أخذت تركيا تتحرر من عباءة, أو قيود التحكم الحكومي في الاقتصاد, وانتقلت بخطوات متسارعة إلي اقتصاد السوق. وعندما جاءت حكومة العدالة والتنمية إلي السلطة كانت أكثر إخلاصا لاقتصاد السوق من كل سابقيها [email protected]