ألو.. ألو.. أيوه يا مخلوف باشا.. أنا علي قهوة الجزيرة.. منتظرينك ومعايا الزيون.. ماشي بيقول معاه تلاتة ونص.. علي كلمة.. مشفتش توكيلات ولا حاجة.. طيب منتظرينك.. كمن استراح من هم تنهد, أغلق الهاتف والتفت إلي مطمئنا وهو يؤكد.. سارع بطلب المشاريب بينما كان من نصف ساعة يردد مش حنطلب دلوقت, فهمت وقتها أن الحساب في ذمة القادم, تشاغلت عنه بمتابعة الأحداث, أما هو فكان يترقب السيارات التي تقف علي مقربة, انتصف ليل القاهرة, انتفض يمد السلام والإشارات والخطوات لسيدة في الخريف المتأخر من العمر, وراءها متسللا يمشي علي مهل بلا صوت تقريبا, قدمها عبدالحي إلي: نانا هانم إحدي قيادات الحزب.. الباشا مخلوف بيه عضو المكتب السياسي ومن المؤسسين.. بهاء يونس يا حضرات من شباب الثورة اللي قعدوا في الميدان ييجي عشر خمستاشر يوم لحد الشمس ما لحست...؟.. كانوا لا يستمعون, سحبوا الكراسي وأنفاس الدخان, حضر لحظة الدخول وامتلأت الطاولة بالكئوس, خرج السؤال الأول هكذا من فم عروس الخريف: أنت منين.. شكلك كده مش قاهري, حدقت طويلا بها: من المنصورة.. كليتي كانت هنا, فأنا خريج تربية رياضية, وطالما بدأنا التساؤلات فما هي وظيفتك بخلاف الحزب؟ ضحكت والتفتت لمخلوف المنهمك في الشيشة: دا عايز يطمن قبل كل شيء, أنا يا سيدي باشتغل في شركة بترول, وزي ما أنت شايف ست كبيرة والسياسة هواية من أيام جوزي السابق, وأنا اللي حدفع الفلوس؟ كان تصريح مبكر, حتي إن مخلوف ألقي اللي ما بين شفتيه بسرعة ووجه كلامه إلي بعد تجاهل: إحنا حندفع في كل توكيل خمسين جنيه, يعني قيمة اللي أنت دفعته للناس عشان يعملوهالك, ظهر الاشمئناط علي وجهي للحظات قابها بكلمة: استني أنا لسه ماخلصتش كلامي, دا مش كل شيء يا يونس, الحزب محتاجك, وزمايلك الشباب الطاهر الثوري اللي عملوك زعيمهم محتاجين حزب يلمهم من الشوارع والميدان, ويدخلهم ملعب السياسة, إحنا عندنا اسم سياسي كبير حتكون النائب بتاعه, عندنا التمويل, المبلغ تعويض عن التكلفة, أنا سياسي يا يونس مش سمسار أنفار, وخلينا ننقل لكم تجربتنا في النضال؟! إلي هنا كان الحديث طيب, نانا هانم أخرجت الشيك, منصب, دخول حلبة الديوك, ربما وزير في أي حكومة انتقالية, كان وضعي كناشط سياسي كما كانت تسميني الفضائيات يتيح لي إبرام الصفقة, وقد كان. تجاوز بنظرتك الذاتية ظاهر الأشياء إلي عمق الحالة ولتقم بالاستبطان الداخلي؟ لم يكمل فودة ما يريد أن يقول, أسكته صراخ مخلوف: بس كفاية, أنا حخليك تمسك أمانة التثقيف السياسي, إنما مش عايزك تقول إلا لما المكتب السياسي يجتمع, بس من دلوقتي اعمل شغلك, وثقف الناس بتوعنا؟ كان فودة أكثر حصافة حين سأل عن اتجاه الحزب يميني, يساري, ديني.. إلخ, وكان مخلوف واضحا فاضحا, فقد ادعي ممارسة السياسة منذ السبعينيات, اختار ما تشاء يا فودة, فنحن حزب جديد وثوري, ولا يهمنا الاتجاهات, وليختار الشباب ما يشاءون( هكذا فتح نفسنا علي الشغل), فحقا أين يمكن أن تجد سياسي محنك معك ولا يجرك وراءه. اتضحت بعض الأمور في الاجتماع السابع والخمسين بالقهوة, فالمقر برغم اتساعه, وحيه الراقي, وديكوراته وصالات الندوات هو للإداريات والملفات, فنحن حزب شوارعي كتب علينا ألا نعرف الراحة إلا في الميادين, انسل الأعضاء إلي المظاهرات والمسيرات, وتكوين شبكة العلاقات, ألتراس الزمالك, الأهلي, من يقاربهم في العمر, مطالبهم المشروعة, عدالة التحكيم, حق الشهداء, شهداء بورسعيد, أحاديث صاخبة ساخنة تمتد حتي خيوط ونسيج الفجر, مهما كانت كمية الطلبات كان كارت فيزا نانا هانم جاهز, روت كيف أنها أحضرت ألف وخمسمائة وجبة لمعتصمي الاتحادية الذين ظلوا ليومين بلا طعام, والغريب أنها فعلت الشيء نفسه لمعتصمي رابعة في رمضان, برغم أنها شاركت حملة تمرد الجمع والفرز, وشاهدها الملايين تقول إنها ستأخذ ورق تمرد إلي مجلس الأمن؟؟! عالم غريب علي رياضي ملاكمة مثلي, نزلت الثورة بعد أن فشلت في الالتحاق بوظيفة في نادي أو الاتحاد, فاللعبة تحتاج لصرف حتي تصبح بطل, الحق أن الوظائف التي امتهنتها مؤقتا كلها من باب الأمن الخاص, أو اليودي جارد! ولم يكن طموحي هذا, نزلت لأقول لها, فساعدتني البنية القوية, والطول, وشبابي الرياضي كي ما أكون موضة ثم علامة ثم زعيم تلتف حوله البنات المناضلات متأخرات سن الزواج, ثم الشباب الثوري المتفتح للحياة, عقب بيان مبارك الأخير اشتعلت في رأسي فكرة إنشاء حزب ثوري سياسي, ووقتها علمت أننا أسقطناه بمن معه, الأمن, الحزب الوطني, أسقطنا حتي الرموز الكبيرة في البلد, لن يحافظ علي موقعه أحد!! وتجمعت التوكيلات ورقة ورقة؟ لم أنتظر من كان بلا مورد, أعطيته ليذهب للشهر العقاري, كان التمويل عقبة, غير أن القروش تفعل شيء أيضا, في النهاية تخضع للملايين وتتنازل طمعا في تحسين الأوضاع, نائب رئيس حزب بلا عمل أو مهام, ومخلوف أمين الداخل, حتي السياسي القدير رئيس الحزب لا يعلم أي شيء, واجهة سياسية للأحاديث والمقابلات, يأمر فيلتزم بخطه الباقون, والشباب؟؟ يسوقهم مخلوف بكل وسائل الضغط والتفريق, والتآمر لديه حيل ومغريات, ومجموعة اتهامات قاسية, فنحن لم نألف الاعيب, راقبت من خلف الستار من وقفوا معي في الميدان وهم يستحقون بدنيا ونفسيا فيجمد عضوية هذا, ويوقف هذه, ويلوك سمعة تلك حتي تتحطم, ولطالما وقفوا بشجاعة أمام جحافل الأمن, وعبوات الدخان والرصاص؟ تطوع أحد شباب حملة تمرد في إيصالي بسيارته لمؤتمر جماهيري في عابدين, كان اجتماع الحزب قد تم إلغاءوه بسبب انشغال مخلوف, الذي وضع علي صفحته علي الفيس اعتذاره لدواعي أمنية, كان يتصرف كما لو كان عبدالناصر أو صدام, حتي تلك اللحظة كنت أفكر, أهذا حقه, يظهر لي وجهه في زجاج السيارة أمامي وهو يقول: بالتأكيد فليس لهؤلاء الشباب قيمة إلا في أيام الفوضي, بهم نحقق علي الأرض أي شيء, الحرية والعدالة يفعل ذلك, كل الأحزاب تفعل ذلك, لماذا إذا لست مقتنعا, يظهر وجهه مرة أخري وهو يقول: ما فرصتنا في أي انتخابات قادمة هه.. قلي؟ جاءت جلستي في الصف الأول فإذا إلي جواري عبدالحي سمسار الصفقة, قدمني للحشود بطريقة ممتازة وأحدثت التأثير المطلوب حتي انهالت علي عروض إكمال السهرة في مكان آخر, أصر عبدالحي علي أن نذهب في صحبة قريبة لمدام نانا, ولم أجد بأس في ذلك, خاصة أن كل العروض الأخري كانت رجالي, قد لا تكون الأخيرة في لستة المعارف والأصدقاء, أحاديث العامة في كل مكان عن السياسة وما تحدثه حملة تمرد من رد فعل مباشر علي القصر الرئاسي, لا بل علي المرشد الإخواني, فهو الحاكم الفعلي للبلاد, وحضرني بيت شعر لابن ذريق البغدادي: أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته وكل من لا يسوس الملك يخلعه ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا شكر عليه, فعنه الله ينزعه قالت: بنانا بتقول عليك شعر يا يونس بيه, ولم أستوعب لحظتها أنها هكذا تتحدث عن نانا هانم, حيزبون الحزب العتيدة, انتهزت الفرصة لأسأل عبدالحي جبرتي الحزب عن مخلوف الذي لا تعجبني إدارته ولا تصرفاته, ولم أقتنع به منذ البداية, ضحك عبدالحي: مخلوف باشا أدار ثلاث شركات حكومية أفلسها جميعا, وزرع في أروقتها المشكلات, ياسلام.. وجحظت عيناي فأكمل: ولأن قوانين بلادك لا تبيح الفصل لسوء الإدارة فقد نقلوه شركة بعد أخري حتي انتهي به الحال في مصنع زيوت وصابون في آخر الحوامدية. شدتني التفاصيل أكثر: وماذا بعد؟ هل أفلسه هو الآخر؟ بمرارة اكتشف الجرد أكثر من مرة نقصان كمية الصابون والزيوت, فكان يجازي العامل ويحمله العجز حتي انخرق في مرة كيس هدوم متسخة كان ساعي مكتب مخلوف بيه يضعه في سيارته, فسقطت قطع الصابون..( سكت) ثم سبقني وأخذ الكلمة من طرف لساني: فضيحة!! ضحكت الجميلة وهي تنظر لتعبيرات وجهينا وأكملت طرف الحديث: جوز بنانا السابق كان وزير أنقذه بأعجوبة, امال هو ممشي الحزب علي مزاجها ليه؟: هي بنانا ولا نانا ولا تكونوا بتكلموني عن حد تاني؟ همست في أذني باسمها الحقيقي الذي ظللت أردده بلا وعي في ذاكرتي, وأنت يازفت يانيلة, عارف كل له وساكت, وايه اللي مخليك تشتغل معاه؟ فكر عبدالحي قليلا: ما هو أنا يا يونس بيه العامل اللي كان بيسد عجز الصابون من جيبه!!! رابط دائم :