لابد من التأكيد علي أن عظمة حضارة شغب معين, إنما تقاس بعظمة قوانين الأمة التي تحتضن هذه الحضارة وبقدرة هذه القوانين علي الاستمرار ومواكبة التبدلات والتغيرات في مناحي الحياة جميعا. ولهذا قال نابليون في أحد الأيام إن مجدي الحقيقي ليس هو انتصاري في أربعين موقعة, وإنما هو تقنيني المدني الذي سيعيش أبدا ولا شيء يمحوه. تري متي سيدرك المشترع المصري الأبعاد العميقة لهذا القول. هذا مع التنويه أن التقنين هو وسيلة فعالة لتوحيد التشريع لدي تعدد النصوص القانونية ذات الصلة بنطاق واحد. وقيمة التقنين لا تنحصر فقط في جمع التشريع وتوحيده وإنما أيضا بإخضاع التشريع إلي تأصيل منهجي شامل. والتقنين عملية قديمة تعود إلي أكثر من أربعة آلاف سنة بدءا بشريعة حامورابي, الشريعة الأكثر شهرة واكتمالا في القرن الثامن عشر قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين. كذلك, فإن شريعة جوستينين في القرن الخامس ميلادي قد سمحت بانتشار القانون الروماني لقرون طويلة. وتعتبر عملية التقنين التي واكبت الثورة الفرنسية وعهد نابليون من أهم عمليات التقنين حتي يومنا الحاضر, أن التقنين يؤدي إذا إلي توحيد التشريع في حال تعددت النصوص وإلي عدم الإكثار من عددها مما يساهم في تبسيطها ومكافحة ظاهرة التضخم التشريعي. وقد عرف الفقه علم التشريع بأنه العلم الذي يعني بتقنية صياغة التشريعات السائدة في بلد معين وتقييم هذه التشريعات من الجوانب جميع وبتقديم الآراء الكفيلة بتطوير هذه التشريعات وتعزيز ملاءمتها لروح العصر. فالتشريع ليس مسألة سياسية تخرج عن إطار التأصيل العلمي بل هو علم تقني قائم بذاته. ويتوخي تحقيق أهداف معينة بصورة منهجية. وكثيرا ما ينظر إلي التشريع علي أنه عمل روتيني يقوم به النواب خارج أي مقاربة علمية. إذ أن مصر ليس لديها أجهزة متخصصة بعلم التشريع خلافا للعديد من البلدان الأوروبية وغيرها من البلدان. إن علم التشريع هو أصل للفروع التالية: التقنية التشريعية, وهي فن صناعة القانون, ويقصد بصناعة القانون ليس فقط صياغة القانون كنص, وإنما أيضا إختيار الوسائل التقنية الأكثر ملاءمة لتحقيق القانون. لذا فإن التقنية التشريعية تعني بالأدوات والوسائل التقنية التي تستخدم في العمل التشريعي بحد ذاته. بعض الدول كألمانيا وسويسرا, مثلا لجأت إلي ما يسمي بند التقييم بحيث يدرج بند في القانون يفرض تقييمه بعد انقضاء مهلة معينة علي إصداره ونفاذه. وقد دعا العلامة كاربونية لأن يكون لكل قانون بند بهذا المعني يلحظ آلية خاصة إحصائية تسمح برصد أسباب ومدي فعالية القانون. كذلك فإن ألمانيا وكندا وغيرها من البلدان قد اعتمدت تقنية تسمي بالتشريع الاختياري, بحيث توضع مهلة معينة في النص التشريعي, يعتبر ساقطا من بعد انقضائها, إذا لم يجدد وفق الأصول. وعلي صعيد آخر, فإن أوروبا التي تشهد تطورا متسارعا علي أكثر من صعيد قد أوجدت لنفسها آلية تشريعية خاصة بهدف مواكبة هذه المتغيرات. فالتشريع هو الإطار الجامع للدول الأوروبية, ولولا وجوده لكانت العلاقات بين هذه الدول مقتصرة علي علاقات التعاون. من هنا فإن هذا الإطار التشريعي من المتوجب أن يحافظ علي مستوي معين. ولهذا السبب وجدت آلية تحسين نوعية التشريع, لا سيما عبر دراسة وتقييم الأثر المتأني عن تشريع ما. فإذا كانت سياسة المشرع مثلا تهدف إلي مكافحة ظاهرة المخدرات كظاهرة تقضي علي مستقبل الشباب, فإنه يحاول ترجمة لهذه السياسة إيجاد نص قانوني متكامل بأدواته ووسائله بغية تحقيق هذه الغاية. ويقول العلامة كاربونية أن السياسة التشريعية تفترض انتقاد ما هو سائد من قوانين وإجراء تقييم للتعديل المنوي إجراءه. يجب إيلاء علم التشريع كل الاهتمام لأن كمال التشريع وحسن تطبيقه عامل استقطاب مهم للمستثمر الوطني والأجنبي. كما أنه شرط أساسي لشعور المواطن بالرفاهية والأمان والاستقرار. كذلك فإن هذا العلم يتيح للمعنيين الإحاطة بالثغرات التشريعية وإمكانية تفاديها مستقبلا, وهذا ما يفترض بأفراد السلطة التشريعية أو بأعضاء أجهزتها الإلمام بتقنية صناعة التشريع من جهة أخري. لأن صناعة التشريع فن قائم بحد ذاته يوجد في العديد من الدول أجهزة متخصصة بهذا الموضوع.ففي المملكة المتحدة وكندا مثلا يتولي جهاز متخصص مؤلف من كتاب عدل ومحامين قدامي, مهمة صياغة مشاريع القوانين والتحقق من مدي انطباق هذه المشاريع مع النظام القانوني المرعي الإجراء. وخلافا للعديد من الدول الأوروبية وسواها, لا يوجد في مصر جهاز متخصص بفن صناعة التشريع, كذلك لا يشترط بالمرشح لمنصب نائب الأمة, أن يكون مجازا بالحقوق أو خبيرا في علم التشريع, الأمر الذي يؤثر بشكل غير مباشر علي صياغة القانون, لذلك فإن الكثير من التشريعات تأتي ناقصة علي مستوي الصياغة من جهة أخري. إن صناعة التشريع تفترض إلمام المعنيين بجميع جوانب الموضوع المراد التشريع فيه, فإذا أراد المشرع مثلا أن ينظم عملية التلقيح الاصطناعي من المتوجب عليه أن يكون ملما تقنيا بهذا المجال, ولا يكتفي أن يكون خبيرا بالمسائل التشريعية إن صناعة التشريع مرتبطة بطريقة تحضيره وبصيغته النهائية علي حد سواء الأمر الذي يستتبع إقرار تشريعات غير كاملة من الناحية العلمية وعليه فإنه ينبغي مراعاة العديد من الأمور عند التحضير للعمل التشريعي: منها المصطلحات التشريعية حيث ينبغي توخي الدقة في استخدام المصطلحات القانونية, إذ كلما أتت المصطلحات المستعملة في النص القانون دقيقة وواضحة ومنسجمة مع المفاهيم الراسخة في الفقه القانوني. إن صياغة النصوص القانونية يجب أن تأتي عامة ومجردة, فهي لا تطبق علي شخص محدد بإسمه وإنما تنطبق علي جميع المواطنين. والصياغة العامة للقاعدة تهدف إلي تحقيق المساواة بين المواطنين المخاطبين بحكم القاعدة وبالتالي إلي تحقيق الأمن الاجتماعي بحيث يشعر كل مواطن بأنه يمكنه الإطلاع مسبقا علي حكم القاعدة وإن هذه القاعدة ستطبق عليه وعلي سواه دون تفرقة أو تمييز.