"بفطريةٍ يُمكننا تغيير ألوان بعض الأشياء المستفزة حولنا، يُمكننا إفساح اللون الأسود للكشف عن بعض ألوان الخريف.. لكنْ ربما لا يأتي الأمر إلّا صُدفة".. ** يُردد الرسّام دومًا عبارات مكررة عن إعادة تلوين الحياة أثناء محاضراته بكليات الفنون.. ويناقشها وسط مجالس أصدقائه الفنانين.. والليلة تدور كراسي المقهى حوله تحملهم يقصُ عليهم صدفة الأمر.. كانت - على غيرِ الماضي - خُطوات الرسّام بطيئة ومتثاقلة تُحاول إنهاء طريقه الصباحي القصير نحو بائع الجرائد الذي يفترش أحد أرصفة الميدان القريب من مرسمه.. بائعُ الجرائد شاب طيب ولطيف.. جالس دومًا على كرسيه المقابل لرصيف جرائده التي أصبحت هذه الأيام تعطي الرسّام أصباح غير مبشرة بالخير صفحاتها الأولى عنوانين مستفزة له تحمل معظمها ما لا يروق له من انحيازات لفئات، وتفخيم لبعض من لا قيمة لهم.. وغيرها من الأخبار اليائسة. أعطى جنيهين للشاب، ومن بين أكوام الجرائد الكثيرة على الرصيف التقط جريدته التي اعتاد شراءها كل صباح، والتي أصبحت مثل الباقين لا تعجبه؛ ربما لربطه بين تغيُر أسلوبها بتغيير رئيس مجلس إدارتها.. من قبل تحدث مع أصدقائه هؤلاء كثيرًا عن هذا الرجل وكيف أنه يتصور دكتاتوريته في إدارة الجريدة والمؤكد أنه يستمدها ممن ينحاز إليهم في عنواين الجريدة.. عاد بجريدته الصباحية إلى مرسمه وألقاها بلطفٍ على طاولة الرسم المنتصبة دائمًا، وصنع لنفسه فنجال قهوته الصباحي.. وجلس يرتشفه.. كانت صفحة الجريدة الأولى مفرودة على طاولة الرسم تحتل جزءًا كبيرًا منها.. جلس أمامها على الكرسي المقابل للطاولة يرتشف قهوته وهو يقرأ عناوينها الرئيسية الكبيرة من بعيد.. أنهى فنجانه وحرك ذراعه ليترك الفنجال بين قنِّينات الألوان الصغيرة.. لم يُعد كفه إليه إلّا وهو يحمل فرشاة قِنّينة اللون الأخضر.. وضعها بإحكام بين أصابعه وتحرك خُطوة نحو طاولة الرسم، وحرك فرشاة اللون الأخضر في شكلٍ دائري وهو يتأملها تغطي عناوين الجريدة الرئيسة. أغرق العناوين بلون أوراق الشجر، وأعاد الفرشاة إلى قنينتها وهو يستبدلها بفرشاة اللون البني.. غطى بها الخطوط الرأسية العريضة التي تفصل بين أخبار الصفحة والإعلانات الإجبارية. تلا اللون البني اللون الأصفر الذي غطى به فقرات الأخبار التي لا يقرأ كلماتها الكثيرة المنمقة بلون ورق الخريف المتساقط.. واختتم بألوانه تغطية الأسماء العريضة المُكررة كل صباح بلون الأرض الرمادي.. وأحاط ألوان الصفحة بزخارفٍ اسثنائية أملاها عليه ضميره الفني.. فتح الرسّام نافذته نحو ورقة الجريدة الأولى لتجف، وقطعها من الجريدة، وأحاطها بإطارٍ خشبي قديم لم يكن يستعمله.. وفي الصباح التالي لصباح الرسم.. أخذها معه في مشواره الصباحي القصير وأعطاها للشاب الطيب بائع الجرائد.. ابتسم الشاب ابتسامة خفيفة غير مُدرك ما يفعله الرسّام وأخذ منه اللوحة وضعها بجوار كرسيه أمام أكوام الجرائد.. ذات روتين بعد عدة أصباح، وأثناء التقاط الرسّام لجريدته من على الأرض أخبره الشاب بائع الجرائد أنه باع لوحته لأحد زبائنه بستين جنيهًا، وأبرز للرسّام نقودًا أنْ يأخذ جزءًا من ثمن اللوحة؛ فرفض وهو يُخبره أنه أعطاها له هدية. شكره الشاب وهو يعرض عليه أنْ يرسم له لوحات ثانية يُمكنه بيعها بأثمانٍ أكبر ويصبح بينهما عمل.. ابتسم له الرسّام ابتسامة خفيفة.. وأخذ جريدته.. ولم يُخبره أنه لن يأت إلى جرائده ثانية.. وعاد منتشيًا بهدفه الذي حققه.