كانت متأكدة أنه لن يجيب برفض أو قبول على إخبارها له بأنها تنوي الذهاب في رحلة إلى السوق, كانت قد اعتادت منذ أن تزوجته على طريقته في إعلان الخصومة, واعتادت أيضا على أيام الخصام الطويلة التي ترافق غضبه, وقد اعتاد هو أن يصمت صمتا مطبقا كلما غاضبته؛ أو أعلنت رفضها لوجهة من وجهات نظره؛ أو اعترضت على قرار من قراراته. لسنوات مضت كانت تلك الدمعة لا تفارقها عندما يعلن الخصام, وكان شعورها بالعزلة والرفض هو الأشد على نفسها, ولم يكن الصغار بقادرين على ملئ المساحة التي يفرغها خصامه واعتزاله لعالمها لأيام طويلة, وقد حاولت مصالحته مرات عديدة وكان الصدُّ هو ما منعها من تكرار محاولاتها مهما طالت عليها أيام هجره. اعتادت أن يدخل دون تحية ويرافق صمته نحو المطبخ ليصنع طعاما بنفسه متجاهلا كل الأصناف التي تُعدها وتملأ بها الثلاجة والمائدة, وكان يرفض مساعدتها له في ارتداء ملابسه؛ ويترك فنجان القهوة الذي تعدُّه له عصراً ليبرد كمدا, ثم يجالس التلفاز في الأمسيات متجاهلا تلك الروح الساكنة في جسدها المتعب, وكانت ترى ملامح ابتسامة على وجهه تسقيها دموعها وحزنها وآلامها عند الخصام, وكانت تلك الابتسامة هي ما أشعل في روحها عبق التحرر من تعلقها به وربطها لسعادتها برضاه. لأيام طويلة كانت تراودها تلك الفكرة فكيف تقدم له مفتاح سعادتها وتتركه لديه ليفتح ويقفل الأبواب كيفما شاء, واتخذت وقتها قرارا لا رجعة فيه بالتحرر من هذا الأسر, والنأي بسعادتها بعيدا عن هواه ومزاجه المتقلب. عندما أغلق الباب خلفه دون تحية توجهت هي نحو غرفتها لترتدي ملابس الخروج ولتضع مبلغا كبيرا من المال في حقيبتها الجلدية, وغادرت المنزل بعد أن أغلقت الباب بهدوء وثقة. في السوق اشترت لنفسها عقدا من الفضة تحليه خرزات بلون الزمرد الأخضر, وقطعة حلي ضخمة لهاتفها المحمول ونظارة شمسية كانت قد رأتها قبل أيام وأعجبتها واعتقدت يومها أنها غالية الثمن, لكنها اليوم لم تفكر في ثمنها؛ فقد كانت تريد أن تسعد نفسها وتنهي ذلك الحزن. وفي المكتبة اشترت ست روايات وكتابين ولمحت تعجب البائع لقدومها لمكتبته في غير موعدها المعتاد عند بداية الشهر وقبل أن تنفق أي قرش من راتبها. في صالون التجميل أشعرتها روائح العطور والمستحضرات الجميلة بسعادة ترتبط في ذهنها بتلك الصورة الجميلة التي تضفيها عليها زيارة الصالون فقررت أن تقوم بتغيير لون شعرها كاملا. تسريحة جديدة.. زجاجة عطر.. ملابس رياضية جديدة.. إكسسوارات ثمينة.. وطبق واحد من الحلوى الفرنسية هو ما عادت به من رحلتها السعيدة. اقترب موعد عودته فبدأت بإعداد فنجان واحد فقط من قهوتها, وأخرجت فنجانا مذهبا لم تكن لتستعمله إلا للضيوف, ثم جلست ترتشفه أمام التلفاز. لم تلتفت لوصوله ولم تستعطفه بنظرة عتاب لعدم إلقائه التحية, وشعرت به يقف عند الباب يتأمل الموقف الجديد, والشكل الجديد, والفنجان المذهب في يدها. غاب قليلا وعاد بملابس نومه وبفنجان يشبه فنجانها, جلس على الأريكة بعد أن تناول جهاز التحكم معلنا وصوله نحو عرشه, وأدهشه برودها وعدم اعتراضها على قطعه لما كانت تشاهده. تناولت رواية اشترتها لتقلب صفحاتها ولتهدئ نفسها من إزعاجات صوت تلفازه العالي, ثم غادرت نحو المطبخ لتعود بكأس واحدة من العصير وطبق واحد من الحلوى الفرنسية, وجلست على طاولتها لتبحر في الشبكة العنكبوتية وتبتسم وهي تتحدث بصمت مع صديقاتها عبر( الماسنجر) وتتناول الحلوى بسرور. لاحت لها ابتسامة وجهه ترافقها دهشته لتحدياتها الجديدة, وضحكت بقوة عندما سمعت صوت بحثه عن كأس عصير يخصه أو طبق حلوى لن يجده, وضحكت بصمت عندما غادر نحو غرفة النوم معلنا هزيمته للمرة الأولى منذ سنوات. نظفت أسنانها ودلكت وجهها بمستحضر مصنوع من زيت بذور الرمان ورتبت غرفة الجلوس قبل أن تغادر نحو غرفة النوم لتنام بهدوء و سكينة. في الصباح داعبتها رائحة القهوة, فتحت عينيها لتجدها في الأكواب المذهبة, وفي صينية الضيوف, وفي يده, و هو يبتسم لها قائلا: "صباح الخير.. هل ما زلت غاضبة؟".