جاءت المشاركة المصرية في الاحتفال الرسمي لإعلان دولة جمهورية جنوب السودان الذي جرى السبت الماضي ليلقي الضوء على سعي مصر لإقامة علاقات تكاملية بينها وبين دولة الجنوب بنفس أهمية إقامة تلك العلاقات مع الشمال، لاسيما وأن مصر هي ثاني دولة اعترفت بالدولة الجديدة، كما أنها ارتبطت مع الجنوب بعلاقات تاريخية جيدة تسمح لها بالتوسط لحل أي خلاف قد ينشب بين دولتي السودان في المستقبل. وتظهر أهمية إقامة هذه العلاقات التكاملية في ظل التحديات التي من المتوقع أن تواجهها هذه الدولة الوليدة سواء في كيفية توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها أو القدرة على بناء هياكل ومؤسسات مستقرة في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية" فالأوضاع في الجنوب يشوبها العديد من الصعوبات بسبب ضعف البنية التحتية وانحصار الإنتاج الاقتصادي في الزراعة التقليدية اليدوية والرعي غير المنظم، وعدم توفر العمالة المدربة أو الماهرة هذا بالإضافة إلى الصراعات القبلية وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي هناك. وهنا يبرز دور مركزي لمصر في جانب إقامة مشروعات تنموية لتنشيط النشاط الاقتصادي وعمليات التجارة، كما يمكن لمصر أن تمد الجنوب بموارد بشرية ماهرة تعمل على تدريب السكان الجنوبيين ليكونوا قادرين على أن يصبحوا عناصر منتجة داخل سوق العمل. وكانت مصر قد قامت بإنشاء أربع محطات لتوليد الكهرباء في أنحاء مختلفة من الجنوب، وتأسيس عدة مستشفيات وعيادات ومدارس في الولاياتالجنوبية، فضلا عن الاستعداد لافتتاح فرع جامعة الإسكندرية في جنوب السودان قريبًا. وتعد مقومات التكامل متوافرة بقوة بين مصر ودولتي السودان الشقيقتين" فالدول الثلاث تتمتع بموقع استراتيجي متميز يطل على البحرين الأبيض والأحمر، مما يجعلها طرقا بحرية هامة تمتد من شواطئ أوروبا حتى شواطئ المحيط الهندي. وتمثل دولتا السودان مدخلاً جغرافيًا وحضاريًا للقارة الإفريقية. ولدى دولتي السودان تنوع هائل في الإنتاج النباتي والحيواني، ويحتويان على أكثر من ربع الأراضي المستزرعة في العالم العربي، ولديهما 346 مليون فدان من الأراضى الزراعية لا يستغل منها سوى 146 مليون فدان. وفي هذا السياق يمكن أن يمثل التعاون الزراعي أحد مداخل التكامل بين مصر ودولتي السودان، وذلك من خلال إرسال مزارعين تعاونيين إلى السودان ليمتد نشاطهم كأفراد أو كمجموعات أو تنظيمات تعاونية لتنفيذ مشروعات متكاملة هناك. كما يمكن أن تزيد مصر حجم الاستثمارات الزراعية في هذه الأراضي القابلة للزراعة" وهو ما يساهم في تحقيق الأمن الغذائي والتنمية الزراعية المشتركة للدول الثلاث. وتشكل الثروة الحيوانية مجالا حيويا للتعاون، حيث يمكن للسودان تغطية السوق المصرية من اللحوم الحية والمذبوحة، وهو ما سيزيد من عائدات صادرات اللحوم السودانية. ويعد ملف المياه المياه محورا أساسيا للتكامل، خاصة وأن مصر مهددة بفقد 8 مليارات متر مكعب من المياه فى حال عدم التعاون والتنسيق مع دولتي السودان، وهو ما يبرز أهمية تبني سياسات مائية طموحة تهدف إلى استغلال الموارد المائية استغلالا رشيدا، والحاجة إلى تنفيذ مشروعات تنموية تساهم في تغطية احتياجات البلاد الثلاث للري والاحتياجات المدنية. ويمكن القول إن أبرز صور التكامل بين مصر والسودان تعتمد بالأساس على الربط بين القوى البشرية عالية الكفاءة في مصر وبين الموارد الإنتاجية المادية المتوافرة في السودان خاصة عنصري الأرض والمياه. ولذا فإن تفعيل قانون الحريات الأربع (التنقل، والإقامة، والعمل، والتملك) الذي صدر مؤخرا ليشمل جمهورية جنوب السودان، يعتبر ذا أهمية قصوى لأن التعثر في تطبيقه أو التأخر في تنفيذه لا يساعد على تحقيق تعاون حقيقي بين البلدان الثلاث. ولا ريب في أن اعتبارات الجغرافيا ومسارات التاريخ وحركة البشر قد نسجت علاقات خاصة بين مصر والسودان امتدت لعقود طويلة ساعد في تعزيزها التمازج الثقافي والروابط الاجتماعية والنيل العظيم الذي يمثل شريان الحياة للبلدين. وبرزت هذه العلاقات الخاصة مجدداً في ذلك الترابط بين الأحداث الفاصلة التي مرت بها كل من مصر والسودان منذ بداية هذا العام" فمصر تعيش مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية بعد ثورة 25 يناير، من أبرز مؤشراتها الخارجية: العمل على استعادة دورها الإفريقي وروابطها الوثيقة مع جيرانها الجنوبيين. فيما شهد السودان منعطفا حاسما في تاريخه بعد قرار انفصال الجنوب وتكون دولة جديدة إلى جوار شمال السودان. وارتبطت مصر والسودان بعلاقات تاريخية تأرجحت كثيرا بين الصعود والهبوط، غير أن البداية الحقيقية وكان من ضمن أهم مشروعات التكامل بين مصر والسودان مشروع قناة جونجلى الذي كان -في حال تنفيذه- سيوفر للبلدين حوالى 20 مليار متر مكعب من المياه تقسم مناصفة بينهما، حيث إن هذه القناة كانت ستعمل على تأمين تدفق 4.7 مليار متر مكعب من المياه سنويا تقسم بالتساوي بين دولتي المصب. ورغم أن المشروع قد قطع شوطا طويلا في التنفيذ بعد أن تم حفر 260 كم من إجمالى 360 كم، لكنه توقف تحت ضربات الجيش الشعبي الذي كان يقوده جون قرنق في عام 1984. وكان من المنتظر أن يمثل مشروع قناة جونجلى أساسا لمشروع اجتماعى واقتصادى، وليس مجرد مشروع فني، إذ إن العنصر البشري به يشكل عنصرا رئيسيا كان سيتيح الفرصة أمام عدد من السكان للانتقال من حرفة الرعي إلى الزراعة، كما أنه كان سيساهم في تطوير الإنتاج الزراعى وإنتاج الثروة الحيوانية وتوفير المواد الأولية اللازمة للصناعة، وتوليد الطاقة الكهربية من اندفاع قوة المياه، فضلا عن توفير المرافق الأساسية، والخدمات اللازمة لسكان المنطقة. ولهذا يتضح مدى الأهمية التي تمثلها قناة جونجلي، وهو الأمر الذي يجعل إعادة استكمال حفرها من أولويات المرحلة القادمة لدى مصر ودولتي السودان، خاصة وأن هناك توافقا فى الرأي بين مصر والدولتين على ضرورة استكمال هذه القناة فى أقرب وقت ممكن. ويمكن القول إن الضمان الحقيقي لنجاح التكامل بين مصر والسودان خلال المرحلة الراهنة التي تمر بها الدولتان هو أن تعمل المشروعات لمصلحة شعوب البلدين، ولا تخدم مصالح أطراف معينة دون الأخرى"، فالمظلة الرسمية موجودة بالفعل، ولكن الشعوب هي صاحبة المصلحة الرئيسية في تحقيق التكامل المنشود.