يصور البعض - ومنهم مسئولون ومفكرون وعلماء - العلاقة بين الثقافة والفقر بوصفها علاقة طردية.. يتحدثون ويحللون تلك الأزمة المعقدة – من وجهة نظرهم - بين ضروريات الثقافة وحاجات المجتمع.. ويعزون بقلة حيلة تعثر نشر الثقافة بسبب الميزانيات.. وكلها نظريات مختلقة.. وهمية.. طامعة أحيانا في مكاسب ما. يتحدثون عن العدالة الثقافية وتوزيع ثروات الثقافة رغم أنها في كل شبر في أرض المحروسة، يطالبون بميزانيات ضخمة لتحقيق التنوير ونشر الثقافة وإقامة المشروعات، وكأن الأزمة هنا في التمويل. فهل فعلا الثقافة المصرية في أزمة بسبب نقص الميزانيات؟ وهل هذا يعني أننا سنظل جهلاء نعاني الأمية الثقافية طالما إنفاق الدولة على الثقافة محدودا؟ أسئلة تحتاج إلى صدق مع النفس أن من يريد صواب الإجابة يبغي مصلحة الوطن، ولا تسأل كثيرا.. هل يمكن للفقير أن يكون مثقفا؟ وكيف يلبي الفقير أولويات سد الجوع والضروريات في حياته مع متطلبات الثقافة من شراء كتب أو حضور حفلات الموسيقى ومشاهدة السينما والمسرح وغيرها؟ لو كانت الأزمة في الميزانيات فلماذا تخرج في عصور الأزمات الاقتصادية في الوطن علماء وكتاب وفنانون، بل إن التاريخ شاهد على معاناة كثيرين منهم ممن صار لهم جهد كبير في عالم المعرفة ومختلف العلوم، ويروى كبار العلماء في سيرهم الذاتية كيف كانت الكتاتيب هي بيت التنشئة الأول قبل الالتحاق بالمدارس، وقتها كان خريج الكتاب يقرأ ويكتب دون أخطاء في الإملاء، ويتعلم الحساب بمهارة، في الوقت الذي نبحث فيه حاليا عن مشروعات لإعادة تأهيل خريجي المدارس لتعلم الكتابة الصحيحة. إذا كنا نحتاج ميزانيات لبناء مواقع ثقافية فإن في كل قرية ونجع مدرسة يمكن أن تستغل لخدمة النشاط الثقافي للنشء والشباب، بل إن مصر بها نحو 50 ألف مدرسة و4500 مركز شباب لا يقتصر دورها على الرياضة فقط حيث تقام بها الفعاليات الثقافية، ويتضمن كل مركز شباب مكتبة وقاعة للنشاط الثقافي. نشر الثقافة لا يحتاج إنشاء مباني عملاقة وقصور فخمة ودور أوبرا جديدة، في حين أن ما هو قائم بالفعل من مواقع ثقافية إما معطل أو مزيف، فكثير من المواقع الثقافية تقام بها أنشطة وهمية، وروادها هم العاملون فيها وذويهم، أي أنها دون جمهور حقيقي. فهل نريد بالميزانيات الإضافية أن نزيد المباني الفارغة من الجمهور بمنشآت جديدة وموظفين جدد، لنزيد الأعباء على كاهل الدولة. إن محاولة الربط بين تعثر نشر الثقافة بسبب محدودية الميزانيات أمر لا يمكن أن يمر مرور الكرام، فقل لي ماذا فعلنا بما لدينا من مئات المواقع الثقافية؟ وما هي درجة التأثير والوصول للجمهور؟ وأين أنفقنا ما حصلنا عليه خلال الأعوام الماضية من ميزانيات؟ قصر مفهوم نشر الثقافة في إنشاءات ومبان نظرة خاطئة.. تبدو لدي وكأنها حجة لعدم العمل وقلة الحيلة.. وهي تعبر أيضا عن جمود الفكر والإبداع من قبل أناس مفترض أنهم صناع بل ورعاة الإبداع. فمثلا.. لماذا لا تتبنى الدولة أفكارا إبداعية لنشر الثقافة.. وهي مشروعات موجودة بالفعل.. فهذه عشرات الفرق الفنية الشبابية التي لا تطلب أجرا أو مكافآت باهظة.. افتحوا لها المسارح والقصور.. كما أن هناك مئات الشباب من الفنانين والرسامين لا يجدون مرسما أو قاعة عرض فافتحوا لهم أبواب الرعاية.. وهناك مئات المتطوعين يضعون أفكارا لنشر المعرفة والثقافة لا يمكن تركهم هكذا دون دعم لتنفيذ ما لديهم من مشروعات وأفكار إبداعية.. فقط يحتاجون الدعم اللوجستي.. لا غلق أبواب المواقع الثقافية والفنية والمسارح أمامهم. الإمكانات في مصر واسعة وليست محدودة.. والكفاءات ثرية بالإبداع.. فقط نحتاج أن نعمل لصالح الوطن.. وأن نحاسب كل مسئول في موقعه.. وأن نفكر جيدا كيف نستغل كافة الموارد والمواقع لنشر الثقافة.. فالفقير ليس عذابه في ظروفه وفقره وإنما عذابه في نفسه.. والإنسان ليس محكوما بالظروف ولكن منحه الله عقلا له القدرة على تطويع الظروف واستغلال كافة الإمكانات لتجاوز أزماته وعثراته.