في زحام التهاني وهدايا العيد، تجلس وحيدة في غرفة كئيبة لا ونيس سوى سبعين عامًا، ونظر يقاوم بضعفه ما تبقى لها من أيام، وحنين إلى "لمة العيلة". تلملم غطاءها وتسحب قدميها الواهنتين إلى أسفل سريرها العتيق باحثة عن يد تساعدها في الوصول إلى باب الغرفة.. كادت شمس النهار تغيب ولم يظهر بعد أي فرع من شجرة نسلها لا الأبناء ولا الأحفاد. لا تبدو السيدة العجوز ناقمة على جحود من أفنت عمرها في تربيتهم وإعداد الطعام لهم والقلق عليهم ليل نهار، ما يقلقها هو أن أحدًا لم يظهر في ذلك اليوم لتطمئن عليهم.. لأول مرة تشعر بالندم، ليتها قبلت ذلك الهاتف الذي أهداه لها صغيرهم قبل سفره، قالت: لو كان لديها الآن لاتصلت بأحدهم.. رغم كرهها لتلك الأجهزة التي قتلت المشاعر بدم بارد، لكن المحمول كان سيجلب لها عن الغائبين خبرًا. بيننا أمهات يعشن أعمارهن في حالة "تهميش الذات" تمضي أيامهن في الحياة في مرحلة "عطاء دائم" يمنحن للجميع إلا لهن، هذا هرمون تفرزه روح المرأة إذا ما ازدهرت في رحمها حياة، وخرج من تحتها أبناء. لا تختلف طبيعة هرمون "الذات المهمشة" باختلاف الزمن، يستوي لدى الأم وليدها في فترة الحضانة والحفاضات مع وليدها وقد اشتعل رأسه شيبًا.. هو في النهاية ابن رحمها، يربطها حبل كان سريًا فخرج إلى العلن أينما ابتعد عنها فهو بها موصول..من فرائض الأمومة أن تبقى الأم في وضع الألم منذ حملها حتى تغمض عينيها للأبد وتودع أبناءها الوداع الأخير. الأم نحتتها عوامل التعرية التي غيرت تضاريس المجتمع منذ مطلع الألفية الثانية، وخنقها عصر السرعة بالشبكة العنكبوتية، فتحولت من فكرة "مقدسة" إلى لمحات عابرة تشبه تغريدات فيسبوك وتويتر.. لم تعد رسالة قصيرة أو هدية موسمية ترضي روحها الجائعة إلى مزيد من التواصل مع فلذاتها. بين الأمهات فئة ربما تشكل النسبة الكبرى من مجتمع يتقلب على جمرات الأمية، هذه الفئة لم تنل حظها من عالم المدرسة والجامعة والنوادي والكافيهات وغيرها من ملذات الحياة، قضت عمرها في البيوت تطهي وتطبطب وتطبب وتربي.. هن فيلسوفات في تلك الحياة المغلقة، الوجود بالنسبة لهن مختزل في "وهب الذات" للآخر.. الابتسامة تمنحها لأبنائها، والدمعة تزرفها لنجاحهم وزفافهم وغيابهم، ولا تشعر أبدًا بداء طالما سكنت العافية أبدانهم، كما لا تجوع طالما شبعت بطونهم. ينقضي عُمر الأم "المحرومة" فى سبيل الأبناء ، وتتعمق لديها التضحية والعيش من أجل الآخر دون أن تندم . الفئة الأخرى هي الأمهات الحديثات ممن لحقن بعصر السرعة، هذه الفئة تعيش صراعًا محموماً بين نارين : العمل بسخافاته ، والأمومة بفروضها الكثيرة ، ما يفرض عليها قلقًا دائمًا ،وفقدانًا أيضًا لذاتها الذي يتوزع على جبهتين ، وبينهما تتقلب دون أن تنتظر عطاءً من مشاعر إلكترونية تبثها قلوب أبنائها كما ومضات الألياف الضوئية .. الحبل السُري نفسه أصبح وصلة إلكترونية . الأمهات من كلتا الفئتين يعانين آلام الولادة حتى الرحيل ، فيما الأبناء يقدسون الأمومة صورًا ورسائل ودعوات في مواقع التواصل الافتراضي . الأمومة عمر ضائع لا يكفيه يوم عيد، يتذكر فيه المجتمع أمهاته بمعايدات عينية أو نقدية أو لفظية، قدسية الأم ليست موسمية تزول بمجرد انقضاء العيد لتعود إلى التضحية ، ويعود أبناؤها إلى الجحود والنكران، فتحت قدمى هذه السيدة تسقط الألقاب وتنهار النياشين ، وتتمرغ الكبرياء فى تراب الحياة الأولى التى أطلقت هذه المرآة شرارتها من أحشائها ، تحت هاتين القدمين قاعدة الأمل والرفعة لمن أراد أن ينطلق. لا تنتظر الأم هدية الحادي والعشرين من مارس ..السيدة العجوز فشلت في "التواصل" مع أحد أبنائها ، عادت إلى فراشها وقلبها الضعيف يرتجف قلقًا على الغائبين ولسانها يستجمع بقايا ريقها الجاف ويبتهل: عساهم يكونون بخير.