مازلت نفس الطفلة المتمردة التى لا تستكين إلا على صدر أمها. مهما نضجت على نار «المحن»، أو انكسرت بهزائم الحياة «التافهة». أستعيد روحى الجريئة من عينيها، أصافح صورتى القديمة، أستسلم لغسيل القلب بدمعها العزيز. حين تمتد كفها الصغيرة لجبينى، ويهمس صوتها ب «الرقية الشرعية»، أنسى كل ما كتبت.. وكل ما سطره القدر على جبينى. كنت أظن أن الله تعالى اختص أمى وحدها بتلك العبقرية الفريدة، وأن الأمومة لغة لا تكتب ولا تقرأ، أشبه بمناغاة طفل وليد، يشعر بنبض الحنان وحده. لكننى اكتشفت عدالة السماء، التى وزعت تلك «المنحة» على نساء الأرض.. حتى التى لم تنجب!!. فى عيد الأم أتعجب – كل عام - من تفاصيل المشهد: (الأحفاد أصبحوا رجالاً، وأمى تتنازل عن صلابتها وعنادها، تمنحهم قدرا من «التحقق» فى وجودها وفيضاً من نورها، وشقيقاتى يتحلقن حولها كفراشات.. لم يذقن روعة الأمومة وعذاباتها). يطل من عينى «اعتذار» عن أيام الغياب، تصادره أمى قبل «البوح»!. مازالت تهدهد مشاعرى، تروض اندفاعى، تراهن على قوتى، وكأننى لم أفطم بعد، أو أن حبلى السرى مازال موصولا بها. أحيانا أشعر بأننى أفكر بعقلها، أعشق بقلبها، إنها تسكننى لدرجة سقوط المسافات. دربتنى أمى على قبول الدنيا «كما هى»، علمتنى فنون السلام الداخلى والتصالح مع النفس.. وهبتنى إرادة الحياة. لكنها لم تعلمنى «اللوع» لأدارى عنها آلامى وهمومى.. إنها شفافة لدرجة اختراق عقلى!. اليوم فى عيدها أتساءل عن واقع كل الأمهات: (من المسؤول عن جحود الأبناء.. ماذا تفعل «الأم الوحيدة» فى مجتمع محاصر بالتطرف والإدمان والفساد؟. هل يكفى أن تضع «قبلة» على جبين أمك ثم تضنيها بقية العمر؟). لا أريد إفساد «عيد الأم» بسرد اختلال منظومة القيم، ووقائع العقوق. ولا أريد تحويله لمحاضرة فارغة عن «الأم المدرسة» فى زمن الدروس الخصوصية، والأفلام الثقافية، فقط أريد أن نتقن ترجمة مشاعرنا. الأم أول «موسوعة» تشكل وعينا، وتحدد ملامح شخصيتنا، وتوجه بوصلة أحلامنا، وقد كانت أمى - رغم بساطتها - موسوعة ثرية. أنا أشبه أمى لدرجة التطابق، نفس الأفكار، نفس الملامح .. والأهم نفس درجة الاعتدال. أنا مدينة لأمى بكل حرف كتبته، لأنها أول من أهدانى كتاباً فى طفولتى، مدينة لها باليقين الذى يملأ كيانى. مدينة لها حتى باستقلالى عنها!. كانت تميمة طفولتى قلادة تحمل صورة «العذراء»، وهدية صبايا «عمرة».. ثقافة التسامح تحتاج لوعى فطرى. والإيمان بالآخر يتطلب قلب أم يستوعب الاختلاف. أمى ليست إلا نموذجاً لنساء جيل لم يعتبر الثقافة وجاهة للمجتمعات المخملية.. إنه الجيل الذى نحتاجه اليوم لمواجهة التشوهات النفسية، والانحرافات السلوكية. أمى هى «أستاذتى» الوحيدة فى الحياة. لأمى.. ولكل الأمهات «الصغيرات» أهديكن كلمات العبقرى «صلاح جاهين»: (يا ماما يا أما يا أماتى.. صباح الخير يا مولاتى).