أعادت صفقة اللحوم التى أبرمتها مصر مع السودان مؤخرا لاستيراد 800 ألف رأس ماشية بسعر 1.3 مليار جنيه على مدار السنوات الثلاث القادمة إلى الأذهان إمكانية إحياء «درب الأربعين» الطريق البرى الذى كان يربط بين إقليم غرب السودان (دارفور) بجنوب مصر فى الصحراء الغربية، والذي كان يستخدم للتجارة مع بدايات القرن ال19- لاسيما تجارة الإبل بين الدولتين وحسب ما وصف خالد المقبول رئيس شعبة مصدري اللحوم بالغرف التجارية السودانية تستطيع السودان بثرواتها أن تحفظ أمن مصر الغذائي من اللحوم سواء الحية أو المجهزة وأن تستفيد بهذا الطريق البرى الغربي لاستيراد ما تشاء بتكلفة أقل إذ لن يكون هناك داع لعبور النيل. لقد وضعت هذه الصفقة مدى جدية وزارة النقل وعزمها إعادة إحياء مشروع درب الأربعين في الصحراء الغربية، لخدمة التجارة بين مصر وليبيا والسودان وتشاد على المحك ، فكلنا يعرف وحسب الخبراء أن مصر خسرت كثيرًا حينما ابتعدت عن الظهير الإفريقي والعودة مجددًا لهذا الظهير سيكون لها آثار إيجابية على مصر واقتصادها.خاصة أن المنتجات والسلع المصرية تصدر إلى أوروبا بصعوبة بالغة، بينما نفس المنتجات سيكون من السهل تصديرها إلى دول إفريقيا ، فمعروف أن مشكلة النقل تعد من اكبر المعوقات لحركة التجارة المصرية مع دول إفريقيًا، ومصر لديها سلع كثيرة يمكنها تصديرها إلى هذه الدول مثل البطاطس والأرز والبصل يمكن أن تصدرها، وليس خافيا أن المصدرين والمستثمرين واجهوا مشاكل عدة بسبب غياب مثل هذه الطرق بين مصر ودول إفريقيا في مقدمتها السودان. لفت نظري انه إذا كانت الوحدة بين مصر والسودان انتهت بعد استفتاء تقرير المصير في السودان وأسفر عن استقلال السودان كدولة منفصلة عن مصر عام 54 إلا أن درب الأربعين.. ظل هو سر التواصل الممتد حتى اللحظة يمثل دبلوماسية من نوع خاص بين الشقيقتين العربيتين.. أو كما يقول الشاعر الخالد أمير الشعراء أحمد شوقي.. فمصر الرياض وسودانها .. عيون الرياض وخلجانها وما هو ماء ولكنه .. وريد الحياة وشريانها» وطريق درب الأربعين كان ذلك الشريان .. تكتل اقتصادي مطلوب لا أغالى إذا قلت إن هناك أحاسيس من القلق وشيئا من الخوف ينتابني بأن تظل خطوات سريان وعودة تشغيل هذا الطريق وانتعاش حالة تجارة اللحوم بين مصر والسودان محلك سر رغم انه لا ينقصها شيء لكي تكتمل وتزيد وتستمر سوى توافر الإرادة والعزيمة لدى الدولة، وإقدامها على تشجيع عدد من رجال الأعمال المصريين والعرب على الاستثمار في هذا المجال والسعي لإنشاء المجازر المؤهلة دوليا لكي ندخل فعلا في مرحلة ما يمكن أن يسمى بالأمن الغذائي السوداني -المصري الموحد الذي هو بطبيعة الحال يمثل الأمن القومي للبلدين، وهذا ما لم يتحقق حتى اللحظة بشكل جاد على أرض الواقع فلم يبارح عن كونه كلامًا في كلام .. لكن سيتعجب البعض أنه بمجرد أن ألتقى مسئولًا وأفتح مناقشة في هذا الملف و تفاصيله وأسراره أجد حماسًا لا يماثله حماس في الحديث والأماني في إنجازه وتحقيقه بسرعة. فمنذ ثلاثة أسابيع تقريبا كنت في زيارة إلى محافظة البحر الأحمر وهناك التقيت المحافظ اللواء احمد عبد الله وسألته عن مدى الجدية في استثمارات اللحوم السودانية -المصرية في المناطق الحدودية بين البلدين في حلايب وشلاتين، ففاجأني الرجل وبحسم قائلا: بعد دراسة وجدنا أن هناك 350 مليون رأس ماشية سودانية مما يوفر فرص استثمار متاحة لإقامة مجمع مجازر وتصنيع لحوم مؤهلة دوليا في منطقة حلايب وهو أمر ضروري وملح، حيث يتم ذبح الآلاف من رءوس هذه الماشية في اليوم الواحد وذلك سيوفر فرص عمل عديدة. في هذا السياق ومن خلال دعوة تلقيتها قبل يومين من مكتب اتحاد المستثمرات العرب بالقاهرة علمت أنه في يوم 12 يناير الجاري أي يوم الثلاثاء المقبل سيتم الإعلان عن مبادرة عربية افريقية و من خلالها سيعلن في الخرطوم يوم 22 من ذات الشهر عن تأسيس تكتل اقتصادي مصري سوداني ، وحسبما فهمت من المكتب الإعلامي لأصحاب الدعوة، أنه قد يتم تنظيم أول مؤتمر اقتصادي هناك يناقش دور القطاع الخاص والمجتمع المدني في توطيد تلك العلاقات الاقتصادية والاستثمارية وبحث مشروعات عربية ومصرية- سودانية مشتركة خاصة في المجال الزراعي والإنتاج الحيواني بين البلدين ذلك على مسئولية كل من محمد عطا المستشار الاقتصادي لإحدى الشركات المصرية العملاقة والشريك الأساسي في إطلاق هذه المبادرة وتأسيس التكتل المشار إليه، وسيدة الإعمال الدكتورة هدى يسى رئيس اتحاد المستثمرين العرب وعبد الفتاح الديدى الأمين العام لنقابة المستثمرين الصناعيين بالسويس وخط القناة .. وهذا ما نرجوه أن يتحقق فعلا وليس مجرد حالة احتفالية وملتقى للدردشات الصحفية والشو الإعلامي ..إذا كنا جادين فعلا في تكون صفقة ال800 ألف رأس ماشية بداية جيدة للتعاون. ونعود الى المقبول، رئيس شعبة مصدري اللحوم بالغرفة التجارية السودانية الذي أشار إلى عقد استيراد اللحوم الأخير -تصفه مصر بأنه من اكبر الصفقات- والذي أبرم مع شركة واحدة وهي شركة الاتجاهات السودانية بأنه يعتبر «ذرة في بحر» و إذا كان السودان قادرًا على توفير 300 ألف رأس من الإبل لمصر فمن المؤكد أن يكون قادرًا على مدها بما تحتاجه من رءوس الأبقار. وفقا للإحصاءات الرسمية السودانية فهي تمتلك نحو 105 ملايين رأس من الماشية تضم حوالي 65 مليون رأس من الأبقار والضأن و6 ملايين رأس من الإبل تعيش على المراعى الطبيعية و يتركز معظمها في ولايات دارفور بالرغم من هذه الثروة الحيوانية الهائلة إلا أن وضع السودان على خريطة العالم التجارية فيما يتعلق باللحوم يقتصر على الدول المجاورة لها وبشكل خاص السعودية التي تصل وارداتها من الماشية من الخرطوم إلى 5 ملايين رأس تقريبا، إلا أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على السودان منذ 1997 باعتبارها من الدول الراعية للإرهاب قد ترك أثره على صادراتها إلى دول أوروبا الآمر الذي تستفيد منه الدول الأخرى التي تشتهر بتجارة الماشية مثل استراليا، نيوزيلندا والبرازيل. «مصر لها طبيعة خاصة» هكذا قال المقبول، مشددا على العلاقات التاريخية القديمة بين الدولتين في قطاع صادرات اللحوم، حتى من الخمسينيات قبل استقلال السودان عن طريق قطارات الماشية من وادي حلفا، والتي تضع مصر في مكانة خاصة سواء من ناحية الاستيراد بأسعار مخفضة أو بفتح باب السودان للمستثمرين المصريين الراغبين في إنعاش قطاع تصنيع و تصدير اللحوم من خلال تكوين شراكات مع الجانب السودانى في بناء و تطوير المجازر والمراعى والخدمات البيطرية هناك والتي قد تتعاظم معها استفادة الطرفين وزيادة ربحيتهما. وقال المقبول إنه آن الأوان أن يعود هذا التدفق الكبير من السودان لشقيقتها مصر والتى تتميز بسوقها الكبيرة واستهلاكها الضخم من اللحوم خاصة مع موجات غلاء الأسعار التي تضرب السوق حاليا. وتُعد اللحوم من أكثر السلع المبالغ في أسعارها في مصر خاصة بين أسر الطبقات العاملة حيث ارتفع متوسط أسعار اللحوم الحمراء المحلية %298.2 في السنوات ال 13 الماضية، من 17 جنيها للكيلو الواحد في عام 2000 إلى 67.7 جنيه في عام 2013، وفقا لجهاز الإحصاء. في عام 2015، ارتفع سعر الكيلو إلي85.11 جنيه للكيلو في المتوسط في حين أن متوسط الدخل الأسبوعي للعاملين بالدولة. وبما أن نسبة الاكتفاء الذاتى من اللحوم الحمراء في مصر وفقًا لإحصاءات الحكومة تصل إلى 75% حتى عام 2013 فإن مصر تعوض الفجوة بالاستيراد وفي الوقت الذي فقد فيه الجنيه حوالي 30% من قيمته أمام الدولار- أضحت المنتجات المستوردة اعلي تكلفة، الأمر الذي يجب أن تتعامل معه الحكومة بشكل يضمن لمصر توفير احتياجاتها من اللحوم دون زيادة أعباء الموازنة العامة. و في هذا السياق ينصح المقبول الحكومة المصرية بأن توجه مستثمريها للأراضي السودانية بينما عدَل الرئيس السوداني عمر البشير قوانين الاستثمار بما يكفل سهولة تملك الأراضي وتيسير إجراءات الاستثمار للمصريين ونادى المقبول الحكومة المصرية باسترجاع جميع التحويلات المالية والبنكية بين الدولتين، حيث ان القيود الحالية التي تضعها مصر تسهم بشكل مباشر في أزمة توفر العملة الأجنبية في الخرطوم. مجازر للمنافسة الدولية ووفقا لوزير الثروة الحيوانية السوداني موسى تبن فإن السودان تمتلك حاليا 9 مجازر منها ثلاثة فقط تقوم بتصدير اللحوم المجهزة لحصولها على الشهادات الصحية المعتمدة دوليا من هذه المجازر الثلاثة هناك واحد فقط باستثمارات مصرية -سودانية يقع على حدود ولايتي الجزيرة و الخرطوم، و أوضح عماد أبو رجيلة رئيس شعبة صناعة اللحوم باتحاد الصناعات السوداني أن الاستثمارات المطلوبة لإنشاء مجزر معتمد حوالي 15 مليون دولار ولكن أرباحه مضمونة لأن أسعار تصدير منتجات اللحوم اعلي من الصادرات الحية لاعتبار القيمة المضافة، وبالتالي إذا ضخ رجال الأعمال المصريون استثماراتهم في هذا القطاع سيفتح لهم باب التصدير إلى مصر و العالم العربي بأسعار تنخفض عن مثيل هذه المنتجات الأوروبية لاسيما وان جودة اللحوم السودانية الأكثر تفضيلًا عند العرب يلحظ ذلك في أوقات عيد الأضحى اذ يتركز الطلب على الضأن السوداني. و من ناحيته أكد المقبول أن الفرصة الآن مواتية للمستثمرين المصريين للسيطرة على استثمارات هذا القطاع لأن السودان في طريقها لحل مشكلاتها الدولية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية بما يضع احتماليات فتح الأسواق الدولية للثروة الحيوانية السودانية - الأمر الذي سيرتفع معه الطلب عليها وبالتالي زيادة أسعارها وتوجه الكثير من الشركات الأجنبية للسودان للاستفادة من ثرواتها، مضيفا أنه حتى في حالة وجود بعض التوترات المؤقتة التي تحدث بين مصر والسودان فإن الود و الحب المترسخ بين الشعبين دائمًا ما يدفع الحكومتين إلى تجاوز نقاط الخلاف، وأوضح ان زيادة الاستثمارات المصرية في السودان ستقوم بدورها بالضغط على الحكومة السودانية لتقليل حجم جباياتها المفروضة على المستثمرين سواء منتجين او مصنعين الامر الذى يؤرق مناخ الاستثمار في السودان. ويذكر أن حجم التبادل التجاري بين مصر والسودان ارتفع إلى 6 مليارات جنيه (حوالي 765 مليون دولار) وقد أوردت وكالة أنباء الشرق الأوسط في تصريحات للواء جمال حجازي رئيس هيئة الموانئ البرية، أن ذلك الارتفاع يرجع إلى الانفتاح الذي تشهده العلاقة بين البلدين من حراك تجاري، خاصة بعد فتح الطريق البرى الحدودي «قسطل-أشكيت» الذي يربط بين مصر والسودان، مشيرا إلى أن افتتاح طريق الأقصر أيضًا أسهم كثيرًا في حركة المواطنين وازدهار التجارة. كان رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب افتتح، في أبريل الماضي، ميناء قسطل البرى الحدودي بين مصر والسودان بتكلفة 360 مليون جنيه، ليكون البوابة الجنوبية الحدودية لمصر مع السودان. وزادت صادرات اللحوم الحية السودانية لمصر خلال الفترة من يناير إلى سبتمبر وفقا لبيانات البنك المركزي السوداني نحو الضعف تقريبا لتسجل 150 مليون دولار من جملة صادرات 214 مليون دولار - صعودا من 81 مليون دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي بما يثبت تحسن وزيادة العلاقات التجارية وتعويل مصر على الشقيق العربي في توفير ما تحتاجه من البروتين الحيواني، وهو ما يمثل فرصة كبيرة للسودان أيضًا.