سؤال يتردد كثيرًا فى مختلف المناسبات، خاصة كلما أقبلت الدولة ممثلة فى وزارة التعاون الدولى على عقد اتفاق بقرض من إحدى المؤسسات المالية أو الصناديق أو الدول المانحة. وإذ يتكون الدين العام للدولة من دين داخلى وآخر خارجى فلابد أن نعرف نصيب كل من هذين المكونين فى هيكل الدين العام قبل أن نبحث عن أسباب القلق أو الاطمئنان إلى المستويات التى بلغها إجمالى الدين العام كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى للدولة. تقديرات الحكومة لعام 2015/2016 أن الدين العام سوف يبلغ ما قيمته 2.6 تريلون جنيه يمثل الدين الداخلى من هذا الرقم ما نسبته 84% بينما تظل نسبة الدين العام الخارجى حول 16%. هذه التقديرات تصل بالدين العام الإجمالى إلى ما نسبته 90% من الناتج المحلى الإجمالى المتوقع للعام 2015/2016، فهل هذه النسبة خطيرة؟! الإجابة تختلف باختلاف الظروف المحيطة بالاقتصاد وبعدد من العوامل التى سوف نتطرق إليها خلال المقال. بداية هناك معدلات مثالية لنسبة الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى وضعها الاقتصاديون وخاصة اقتصاديو صندوق النقد الدولى. المعدل المثالى للدول المتقدمة يجب ألا تزيد فيه تلك النسبة عن 60% أما فى الدول النامية (مثل مصر) فلا ينبغى أن تزيد تلك النسبة عن 40% فقط!. لكن بيانات عام 2013 –مثلاً- تخبرنا أن دولاً متقدمة تجاوزت كثيراً تلك النسبة، بل وبلغت نسبة الدين العام الإجمالى إلى الناتج المحلى الإجمالى فى الولاياتالمتحدةالأمريكية 104.5% (وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولى)، وفى اليابان 243.2% وفى فرنسا 92.2% لكن دولاً أخرى أقل تقدماً مثل الهند حافظت على نسب أقرب إلى المعدلات المثالية عند 66.7% بينما الصين كانت أكثر تحفظاً من أية معدلات مثالية حيث بلغت فيها تلك النسبة 22.4% عام 2013. هذا التفاوت الكبير يؤشر إلى إن المعدل المثالى المفترض لا يعدو أن يكون رقما استرشادياً يجب ألا ينسلخ عن السياق العام للظروف الاقتصادية المحيطة، فماذا عن تلك الظروف فى الحالة المصرية؟ مصر تعانى من مشكلات اقتصادية هيكلية تتمثل فى ارتفاع معدلات التضخم والبطالة وعجز الموازنة (ونمو هذا العجز بمعدلات كبيرة) فضلاً عن عجز مزمن فى الميزان التجارى امتد إلى ميزان المدفوعات مع تراجع المساعدات التى عادة ما تتدفق إلى البلاد فى صورة موجات أو صدمات إيجابية سرعان ما تنحسر آثارها ويبقى فقط أعباء الدين العام بشقيه الخارجى والداخلى ليلقى به على الموازنة العامة ذات الموارد المحدودة والتى ينشأ عنها عجز كبير (بلغ فى تقديرات موازنة 2015/2016 ما قيمته 251 مليار جم بنسبة 8.9% من الناتج المحلى الإجمالى كما بلغ العجز الفعلى المحقق فى عام 2014/2015 ما نسبته 11.5% من الناتج المحلى الإجمالى). فإذا كان هذا العجز يبحث عن مصادر لتمويله فإن الدين الداخلى هو الأقرب والأسرع لأيدى الحكومة فتقوم الحكومة بإصدار أذون الخزانة وسندات الخزانة وتبيعها للبنوك بأسعار فائدة عالية جدًا لا تتناسب مع مخاطرها المنخفضة، فيتحول النظام المصرفى من وسيط مالى يعبئ مدخرات الشعب ويتيحها للمستثمرين فى صورة قروض إلى جهاز لتسليف الحكومة بأسعار فائدة كبيرة جداً لا يتم سدادها فعلياً! هذا الأمر من شأنه أن يتسبب فى تراجع معدلات الاستثمار الخاص فضلاً عن تراجع الاستثمار الحكومى الذى لا يخصص له فى الموازنة إلا 16% فقط بعد أن تضيع معظم الموازنة على الأجور والمرتبات والدعم وخدمة الديون، وهذا كله يحرم البلاد من الصدر الآمن للتدفق المالى المستدام والمتمثل فى عائدات الاستثمار، تلك العائدات التى يمكنها أن تخصص لعلاج سائر المشكلات المزمنة المشار إليها سابقاً. اما إذا لجأت الدولة إلى طباعة النقود بغير أصول حقيقية فإن هذه الطباعة المستمرة لن تؤدى إلا إلى مزيد من الضغوط التضخمية والتشوهات الاقتصادية. فى ظل ما سبق يتضح أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى أصبحت مقلقة فى مصر خاصة وأن معدل نمو الدين العام المحلى زاد كثيراً (منذ ثورة يناير) عن متوسط أسعار الفائدة، وكذلك فإن سلسلتى بيانات الاستخدامات الكلية والإيرادات الكلية بالموازنة العامة تجنحان بعيداً عن بعضهما البعض وكلا المؤشرين دليل على تراجع "الاقتدار المالى" وهو مؤشر على تراجع قدرة الدولة عن السداد والدخول فى دائرة ما يعرف بالتمويل "البونزى" Ponzi finance الذى يخدع العامة بعائدات كبيرة على أوراق الدين لكنه فى الحقيقة يموّل الدين بمزيد من الديون. أما فيما يتعلق بلجوء وزيرة التعاون الدولى إلى الاقتراض فلا أستطيع إلا أن أشكر لها جهودها، خاصة وأنها لا تفعل إلا ما هو مطلوب منها، فهى تحاول أن تطفئ حريقاً مشتعلاً بأفضل شروط ممكنة للسداد من حيث سعر الفائدة وفترة السداد وفترة السماح، محاولة الاستفادة من عضوية مصر بمؤسسات تمويل دولية وإقليمية، كما إنها تقوم فى سبيل ذلك بالتعاون فى إعداد ملف متكامل لأوجه إنفاق تلك القروض بما يتفق وأهداف المؤسسات الممولة وأحدثها البنك الدولى الذى التزم بإقراض مصر 3 مليارات دولار على ثلاث سنوات. لكن فى خلفية هذه الجهود يجب أن يكون المطبخ الاقتصادى للحكومة منشغلاً بآليات عدم تكرار الحرائق فى الأعوام المقبلة ووضع أنظمة أمان تكفل ذلك، ويجب أن تكون رؤية الدولة واضحة فى عدم ترحيل الأزمات الحالية للأجيال القادمة متمثلة فى أعباء ديون لا تتمكن الدولة من سدادها فى المستقبل وتلقى بها فى مخاطر التعثر المالى الذى راحت ضحيته دول كثيرة فى أمريكا الجنوبية وأروبا كان أبرزها مؤخرًا حالة اليونان.