مرَّ عامان على نياحة البابا شنودة الثالث البطريرك ال117 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وفي يوينو القادم، تمر 8 سنوات أيضا، علي نياحة الأب متى المسكين الذي اعتبر مؤسسا للرهبنة الحديثة، ورغم ما تردد ونشر حول العلاقة بينهما، إلا أنها كانت متدثرة بالغموض وكانت الأكثر جدلا في تاريخ الكنيسة المعاصر. ولكنه بقي في النهاية خلافا بين رجلين عظيمين، شكل كل منهما كيانا عملاقا في تاريخ الكنيسة المصرية، فلم يشهدالخلاف بينهما مطلقا أي نوع من انواع التجريح أو النتقام الشخصي، بل كان البابا يؤكد على ريادة متى المسكين بينما حين جد الجد، كان المسكين مدافعا عن البطريك الراحل في خصومته الشهيرة مع السادات، ليضربا مثلا رائعا في أدبيات الخلاف، خاصة وأن كليهما رجل له مكانته في نفوس الأقباط والمصريين وأي فعل من يصدر من أيهما، فسيكون مبدأ في حياة التابعين لهما، ولذلك حرصا على نقاء ساحة الحوار بينهما وبعدها عن سفاسف الأمور المعتادة عند كثير من البشر، فكلاهما عاش حياة الرهبنة واغترف من نهرها الفياض. وكان الخلاف بين البابا شنودة والمسكين في فترة تاريخية مهمة في تاريخ الكنيسة، ولكن للأسف ينقصها كثير من التفاصيل. وقد ذكرت مجلة الكرازة التى تصدر عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في أثناء نقل خبر وفاة المسكين: "اختلف معه البابا شنودة في أسرار عقائدية لاهوتية، حيث أصدر البابا ردا عليها 8 كتيبات، وقام بتدريس ذلك في الكلية الإكليريكية بالقاهرة والإسكندرية". غير أن مزيدًا من التفاصيل، لم تشهدة أي دورية كنسية رسمية. ووقعت في تلك الفترة كثير من المفارقات، ففي الوقت، الذي قام البطريك الراحل بوصف المسكين بالمثال المضيء في تاريخ الرهبنة في مقدمة كتاب الأخير "حياة الصلاة"، انتقد كتبه والأفكار بها ورد عليها في العديد من الكتب أشهرها "بدع حديثة". كما تردد أنه تم سحب كتب المسكين من مكتبات الكنائس الأرثوذكسية شفويا وليس بقرار مكتوب خوفا من نشر أفكاره بين الأقباط، ورغم خلافات حول الرؤى في العقيدة واللاهوت، لم يوقع البابا شنودة أي عقاب كنسي علي المسكين وحين تم توجيه سؤال له –بحسب رواية مصدر من الكرازة-: "لماذا لا تحكم عليه كنسيا، أجاب بعبارته المعروفة: نحن لا نحارب شخصا بل نحارب فكرا". وفي دير أبو مقار بوادي النطرون.. ذلك الدير الذي تم عزله لغضب البطرك علي أبيه الروحية، حيث لم يقم البابا بزيارته إلا نادرا ، وقف القمص باسيليوس المقاري- ذلك الراهب الذي شهد علي كثير من التفاصيل بين الاثنين وعاصر الرؤساء الذين حكموا مصر وقت وجود جلوس شنودة علي كرسي مارمرقس الرسول- وأمام مدفن المسكين بين الصلبان والورود، لينفي تماما وجود أي خلاف شخصي بين شنودة والمسكين قائلا: "لم يكن ينتقد أبونا متي ولكنه ينتقد بعض الأفكار في كتبه ولم يكن ينتقدها مباشرة، فلم يكن يذكر اسم الكتاب أو اسمه مباشرة في عظاته". بعد رحيل الأب متى المسكين، نشر تلاميذه مذكراته التي تعرض فيها لتفاصيل وساطته مع الرئيس الراحل محمد أنور السادات والتي قال فيها إنه طلب من الرئيس عدم اعتقال البابا شنودة والاكتفاء بتحديد إقامته في الدير فقط، ووقت صدور المذكرات، صرحت مصادر كنسية وقتها باعتزام البابا شنودة بكتابة مذكراته حول هذه الفترة ولكنها لم تصدر حتي وفاته وبمرور عامين علي نياحته، لم يصدر أي فصل من فصول مذكرات البابا حتي الآن. يحكي القمص باسيليوس المقاري عن تلك الفترة قائلا: التقي الأب متي السادات في سبتمبر 1981 ووقتها كان مسافرا إلى أمريكا وكان أقباط المهجر يريدون التظاهر ضده، فأخبره السادات وقتها عن نيته لاعتقال البابا شنودة ومحاكمته فقال له المسكين: "إياك تعمل كده.. الأقباط هيثوروا ضدك، البطرك له مكانته الدينية عندنا وحين نقابله نسجد أمامه ونكرمه.. فإذا كنت تريد إبعاده عن الحياة السياسية، أرسله للدير ولايجب أن تناديه باسمه لابد من مناداته بالأنبا شنودة ".. يكمل المقاري أن المسكين كان في ذهنه تحذير البابا شنودة ونصحه بالذهاب للدير قبل حديث السادات معه. لم يكن هذا هو الفصل الوحيد في القصة الشائكة فلقد عرض السادات علي الأب متي قيادة الكنيسة ولكنه رفض ذلك تماما واقترح تشكيل لجنة خماسية من الأساقفة ووقتها استغرب السادات من الأسماء التي اختارها متي معلقا: هناك اثنان من هذه اللجنة بعثا لي تقريرا بأنك شيوعي و"أنا مستغرب إن إنت متي المسكين اللي قالوا عليك شيوعي" وقتها رد المسكين –والرواية للمقاري- لا يهمني من كتب ضدي ولكني اخترت الأشخاص القريبين والأصدقاء من البابا، حتي يكون هناك تعاون ولا يحدث أي خلافات بينهم. وكان للحكاية تفاصيل أخري عند شاهد آخر، فبمجرد عبورك باب بيته، ستجد صور الأب متي المسكين منتشرة في كل أرجاء المكان، ولكن تبقي الصورة التي بجوار مدخل البيت هي الصورة الأكثر تأثيرا فأمامها دائما شمعة لا تنطفئ.. إنها هنا في أحد بيوت القاهرة، حيث كان يأتي الأب متي المسكين ويجري اتصالاته بالسادات بخصوص البطريرك الراحل. أحد المقربين كالأبناء للأب متى المسكين وهو الدكتور ميشيل فهمي الذي كان شاهدا علي الفترة الأكثر غموضا في علاقة المسكين بالبابا شنودة الثالث، فقد رحل طرفا الأحداث وبقي الشاهد ليؤكد أن الأول بذل مساعيه من أجل الصلح. يقول ميشيل بخصوص أزمة شنودة والمسكين: "أدعي عن يقين بأنها تمت بمعرفة شخصية مني، كان يتردد المسكين علي منزلي في أثناء زياراته إلي القاهرة، -قلم يكن الموبايل ظهر وقتها وكانت الاتصالات تتم عن طريق زيارة السادات مباشرة وفي أثناء إحدى هذه الزيارات، ترك المسكين رقم تليفون منزلي الخاص لتقوم الرئاسة بالاتصال بمنزلي وتحديد الموعد، فأقوم بإرسال الموعد له في الدير بواسطة السائق الخاص بي". وصف ميشيل الأب متى ب"رجل الإطفاء الأول" في أزمة شنودة والسادات، مستطردا أن المسكين هو الوحيد الذي قال للسادات: "لا تستطيع عزل البابا وقرارك الجمهوري لمجرد التصديق وليس للتعيين". وأكد ميشيل أنه عاصر جانب آخر من الأزمة، حيث حكي أن الأب متي المسكين استأذن لزيارة البابا شنودة في الدير ليعرض عليه مطالب السادات، ويوافق شنودة عليها ويسأله المسكين أن ينقل رده للرئيس الراحل فيأذن له بذلك وبعدها يقوم شنودة بتغيير كلامه أو نافيا مااقترحه المسكين عليه وتكرر، الأمر أكثر من مرة وهنا كانت تزداد الأزمات. وفد اغتيل السادات في حادث المنصة الشهير في أكتوبر 1981 ورغم أن الأزمة كانت بين الرئيس والبطرك، لم يعد شنودة من الدير إلا بعدها ب39 شهرا وقيل وقتها إن مساع كثيرة جرت من الكنائس العالمية والشخصيات العامة البارزة لدي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، لعودة البابا شنودة من الدير. قضي البابا شنودة 40 شهرا، حيث دخل إلي الدير في 5 سبتمبر 1981، وخرج منه 5 يناير 1985.. يتحدث باسيليوس المقاري في هدوء كاشفا عن دور عاصره بنفسه للأب متي المسكين مع مبارك في رجوع شنودة من الدير، مفجرا بذلك تفاصيل جديدة في فترة تاريخية غائمة الملامح قائلا: " لايعرف أحد أن الأب متي المسكين طلب مني توصيل خطاب للرئيس مبارك، كتب له رغم أنه لايعرفه قال له إن استمرار البابا شنودة في الحبس يؤذي الدولة ويسيء إلي سمعتها ولا بد لك من الإفراج عنه". وصفت الكرازة لحظة رحيل القمص متي المسكين الكلمات التالية: " رحل القمص متي المسكين عن عالمنا الفاني في فجر الخميس 8 يونيو 2006 عن عمر 87 عامًا وأخذه أبناؤه الرهبان من المستشفي إلي الدير، حيث صلوا عليه ودفنوه، ونشروا في بعض الجرائد أنه ترك وصية بألا تصلي عليه قيادات كنسية، إنما يصلي عليه رهبان الدير فقط، ووقف الأب باسيليوس أمام المدفن ليقول إن وصية المسكين كانت تتلخص فقط في دفنه هنا، مضيفا: "حضر الملائكة والقديسين ". وبرر عدم حضور البابا شنودة، لانشغاله في السفر للخارج للعلاج، مؤكدا أنه أتي بعد ذلك للدير من أجل تدبر أمور الرهبان. تلميذ "متى" يكشف سر خطاب "المسكين" لمبارك الذي أفرج به عن "شنودة"