أخذ الشاعر حفنة من الطين وحفنتين من اللون واخرج يده بيضاء من غير سوء آية أولى لعناق الشكل واللون نفخ الشاعر في الطمي من روحه فصار شكلا لون العينين والشفاه التي تبتسم بعناية فائقة وعندما لم يكف ما لديه من الطمي بسبب القنابل المسيلة للتراب منح الشكل عباءة من الدم ثم صرخ في الطين: قم كن شهيدا يمشي على قدمين أو يطير بجناحين فكان الطين شهيدا وهنا بالضبط ولدت القصيدة من تفاصيل صغيرة ومن ضلع غير معوج من جسد الشهيد وصار "جيكا " قصيدة وديوانا للشهداء معرضا للصور الشعرية على مذبح ثورة تموت يمسك الشاعر أحمد خالد، في ديوانه الأخير "جيكا"، بما تبقى في يديه من أثر الثورة "التظاهرات والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، والخرطوش، وبقايا صور الشهداء، وانتحى جانبًا على المقهى ليطلب القهوة السادة التي تليق بالحداد ثم أخرج كل ما لديه، وفرشه أمامه على الطاولة، وراح يرسم "بروفايل" لكل الشهداء الذين قرر إشراكهم معه في متعة الكتابة. قسم خالد ديوانه إلى قسمين من دون حدود فاصلة، الأول منهما للصور الجانبية للشهداء الذين انتقاهم من ذاكرة ترفض الصمت، ومن مرحلة التباس الوعي، وضبابية الرؤى من مرحلة ما قبل الثورة (المخاض) ومن المرحلة الانتقالية بعد الثورة (الولادة المتعسرة)، وليس مهمًا أن يكون الشاعر هنا واع ٍأو لا واعٍ بأن اختياره لصور الشهداء كان دالا بصمت على أفكار أساسية دعمتها قصائد أخرى في القسم الثاني من الديوان. والاختيار كان منحازًا لفكرة جوهر الدين وفكرة الله عند الشاعر، وهو الله الرحيم ناشر المحبة والتسامح المحرض على الحب، ولذلك كتب قصيدته عن الشهيد الحسيني أبو ضيف لتكون لقاء الحلم بين الشهيد والرب، و لقاء صوفيا بين ثائر يحمل الكاميرا فلما خطفوها منه استعان بقلبه ليرى الله. في القسم الثاني من الديوان – والذي ترك فيه الشاعر للقصائد حرية رسم ملامحه هو وملامح ثوار التقاهم وأحبهم وربما حرضهم على محبة الثورة. فقط أردت أن أشكره على دعوتي للمظاهرة الأولى هذا هو الحب في هذا القسم أيضًا، يرى الشاعر الجنة فكرة جميلة، وأن الشيخ ليس هو الدين وكذلك الكاهن فكليهما مشغول بما يروج له وليس الدين، فهما يمارسان الكذب في الكونجرس وفي شارع طلعت حرب، ومشغولان بصورتيهما ولو ضد الإنسانية أو الحرية: الشيخ خلف زجاج الحانة لا يهتم بالصيادين وينظر بسخرية لثورة الفقراء وفي قصيدة أخرى يدين صورة شيخ القاهرة فيقول له: صرت تصعد المنبر تحرم الثورات وتظهر على الشاشة تعد الأثرياء بالمغفرة لأنه رحمن رحيم وتحتقر الحرية حتى يتم قطع يد السارق وتتماهى صورة الأرض والميدان بصور الجنة والعالم الآخر الذي روجت له روح مريم فكري شهيدة حادث كنيسة القديسين كفكرة جميلة ولذلك يحب الله الشهداء ويحفط لهم نورهم الأرضي ويصبح تأمل المشهد الثورى من فوق سبع سماوات مشهدًا عبقريًا. وأنا أتتبع المساكين الذين أخذوني إلى مكان الأنبياء حيث العشاق على النيل والثوار في التحرير وجسدي على كنيسة القيامة وفي البروفايل الذي رسمه للشيخ عماد عفت شهيد أحداث مجلس الوزراء، أو شيخ الشهداء في أدبيات الثورة، يقف أحمد خالد أمام صورة طبيعية بألوان الحزن للدين الحقيقي الذي يحرض على الثورة، ويحض على الجمال والحقيقة، وكأنه يرفع صورة عماد عفت علامة على المقاومة في وجه من يروجون لصورة كاذبة عن الدين تحرض على الصمت والسكوت وتحض على الكراهية. لمست رائحة الجنة وأنا أدخل ميدان التحرير وإمام مجلس الوزراء رأيت الخيانة قلبي احترق كصفحات المجمع العلمي كمكتبة الاسكندرية كانتداب البنات من الفرح الكوني إلى الاغتصاب في سن التاسعة في قصيدة الحسيني أبو ضيف شهيد الاتحادية تحريض واضح على إلغاء مؤسسة الشيوخ، فقد ذهب الشاعر مباشرة لمعاينة الحقيقة (كما يقول أهل التصوف) بلا وسيط أو مؤسسة تصنع جسرا بين الله والناس، لأن الشيخ غالبا ما "يحتقر الحرية". في مقابل هؤلاء الشيوخ الذين يكرهون الفتاة الإنجيلية التي تحفظ سورة الضحى وتحمل إنجيلاً معطرًا ولذلك يكرهها البطريرك والشيخ وبابا الفاتيكان والحاخام الذي زيف معنى الزيتون وصنع من جدائل شعره "مشانق للإعدام " هي صيحة الشاعر ومبتغاه ولها ربما يكتب القصيدة، مع أنها غير معلنة. في مقابل هؤلاء يعلن الشاعر "تنسكه" أو تصوفه الثوري بحثًا عن العدل والحقيقة وليس مهما هنا أكان الشاعر صوفيا أم لا لأن الراوى أو الرسام الذي يرسم التفاصيل في الفيلم صوفي بمعنى من المعاني. كاستدلال النساك على الله الفقراء على العدل والحقيقة على الطريقة وفي قصيدة جيكا (التي تمنح الديوان اسمه وربما فكرته) نجح خالد في ترويض القصيدة ودم الشهيد ورسم لوحه لجابر صلاح وله شخصًيا، فقد تماهى الشاعر مع ما يكتبه وتكاد تختلط عليك الصور وأنت تقرأ القصيدة هل هي وصف للشاعر أم للشهيد أم لهما معًا. يا ربي هي التي قالت لن أتزوجك نحن مراهقان يجب أن نثور فقط يرفع قاتلي نعشي ويسير به لا يعرف الفرق بين السبب والنتيجة أمي التي تسخن الطعام مرتين حتى أعود من وسط البلد تمشي مع ايزيس لآخر قطعة من الجسدالممزق وأول زهرة نبتت في ميادين الحقيقة فاتتني الاتحادية تأخرت في الفرح والرئيس يتنمر على الشهيد ولما تيقظت رأيته يرفع نعشي ويسير به اسود اللحية كطبيعة الجريمة في كل صور الثوار نجح خالد في تقديم البورتريه بعناية خاصة بالتفاصيل الصغيرة، ولكنه في قصيدتي "الثورة تموت" وفي "اعترافات كاتب في نظام سابق " انتقل من البروفايل الجانبي الي الجدارية فانمحت التفاصيل او اندهمت في بعضها وتاهت، فاللوحة لونها الغضب على حال الثورة، فجاءت أقرب إلى المنشور السياسي منها الى قصيدة التفاصيل الصغيرة التي أجاد رسمها الشاعر في الديوان، او زادت تفاصيل القصيدة عما ينبغي لبروفايل جانبي. في القسم الثاني من الديوان ترك الشاعر للقصيدة الحرية كاملة في رسم صورته هو واستجاب طائعا لفرشاة القصيدة وهي ترسم صورته، المتسامح، حتى ولو كان التسامح مع قط وخفية كما قدم نفسه في بداية الديوان. لست مدينًا لأحد فقد قضيت العقوبة ولست فقيراً لأني امتلك حقل فراولة وتوتًا بريًا ولست ثريًا فقد كففت عن الشراءولست فقلقلا فلن انتهي من شيء وقبل أن نتوهم أننا أمام شاعر يائس بعدما عوقب بما يكفي من الحياة وأنهي كل علائقه معها بيعًا وشراءً وانتظارًا يعلن أنه بكرياء يجلس مع قط أليف في تسامح. ولكنه يشير الى علاقة غير طبيعية مع البيت والقكط فيقول لكن هذا الكبرياء يتركني في هذا البيت مع هذا القط مضطرين للتسامح خفية فهل سيكون التسامح مع الذين عاقبوه بقتل الثوار ممكنًا؟ الديوان يقول غير ذلك والشاعر كما رسمته القصائد عاشق للحقيقة محب للنقاء الذي تمثله تلك الفتاة الانجيلية التي يكرهها الكهان الأربعة. الفتاة الإنجيلية التي يكرهها بطريرك الاسكندرية معها إنجيل مطر تصنع من أوراق ملونة حقائق تهديها لاطفال وتتخيل: ماذا لو أحب المجدلية؟ الفتاة الإنجليلية التي يكرهها شيخ الازهر تحفظ سورة الضحى وتسأل لماذا يحب الله الطبيعة اكثر من الانسان خالد بوعي أو ربما بلا قصد أقام جوهر الدين (ربما نقول التصوف والجوهر)، في مقابل عرض الدين الذي يحض على الكراهية. رفع خرقة الله (الذي لا يضرب أحدا) في وجه الذين سرقوا الثورة بعد ان حرموها، وجعلوا الثورة تموت "كأننا لا نعرف الحقيقة ولم نتفرغ للشهادة و نحن نودع الشهيد. أنتم تجرون من أكاذيب قديمة لا كاذيب جديدة على نفس الشاشات لتموت الثورة، الشاعر الذي رسمته القصائد يرى الثورة قصة حب، هكذا قالت له سارة، قالت فقط أردت أن أشكرك لأنك اصطحبتني للمظاهرة الأولى ذلك هو وباستثناء مريم فكري التي راحت في حادث القديسين وهو حادث مثالي لتوظيف الدين بالعنف والفتنة الطائفية سنجد أن جيكا وعماد عفت والحسيني هم شهداء المرحلة الانتقالية بين حكم العسكر وحكم الاخوان ما يشير الى ان الشاعر يرصد نكسة الثورة وربما موتها الذي يعلنه صراحة في قصيدة طويلة نسبًيا باسم "تموت الثورة" بسبب التباس الوعي وسوء التأويل لنص الثورة الحب. في معظم الديوان ينتصر الشاعر لفكرتين الأولى هي تحرير جوهر الله من التصورات الكاذبة كما في قصائد الفتاة الانجيلية وجيكا والحسيني والثانية المرأة . فكل ما لا يؤنث لا يعول عليه، وكذلك الثورات. وعندما تعود الثورة أنثى كأم جيكا التي دعانا إلى أن نناديها باسمها حتى لا تتذكر. وأن نتحدث عن الفقراء لأنه عندما سألها جيكا عن الحرية ردت: قمح الفقراء وأكبادهم وانتصر لمريم فكري وأقامها شهيدة،ولسارة العجوز التي تعلمت فن الثورة من معنى الفرح بالمظاهرة وكالفتاة الانجيلية التي تحمل اجيلا معطرا وتحفظ سورة الضحى وتسأل لماذا يحب الله يحب الطبيعة أكثر من الانسان وربما نجد الاجابة أو رجع صدى السؤال في قصائد أخرى فالانسان الكاذب صار كاتبًا وخادمًا للأفكار القبيحة والانسان الكاذب قتل الثورة في تأويل ملتبس للنصوص وحتى الإنسان الشريف يقتل وقته القبح كما في قصيدة رجل الحشائش الضارة. لا يقرأ لأنه يدبج بيان احتجاج جديد ولم يكتب لأنه مشغول بالتهكم على كتاب السلطة والمنافقين ولم يعد يمسح على جبين الزهرة لأنه مشغول بمقاومة الحشائش الضارة الديوان انتصار بسيط وهامس لفكرة الصورة وثورة التفاصيل الصغيرة وثورة الانسان العادي وجوهر الدين ومحاولة شعرية وفنية لاثبات. جوهر فكرة الله، والثورة قصائد للمحبة وأن الحقيقة الصوفية الشهيرة التي تقول أن ما لا يؤنث لا يعول عليه دليل على أن الثورة أنثى ولو كان معظم الشهداء من الذكور فمع أن الديوان مرسوم على اسم جيكا إلا أن خطابه للأنثى: أم جيكا وساره ومريم فكري والفتاة الانجيلية. اللافت أن خالد اختار بعناية شهداء منطقة الالتباس فلم يكتب عن شهداء الثورة في أيامها الأولى بل كتب عن ثوار انتكاسة الثورة ودخولها منطقة الضباب الثوري الذي يستوي فيه كل شيء بكل لا شيء.