بوصفه عتبةً للنص، يحمل عنوان الديوان الجديد للشاعر أحمد خالد مسوغات عبوره للقارئ وصرفه عنه فى آن. "جيكا"، (دار الأدهم 2013)، هذا العنوان المجمِل، والكاشف، للوهلة الأولى، عن متن إيديولوجي/ ثوري بالطبع، حافز لكثيرين على مسح قصائد الديوان لأكثر من مرة، تتبعاً لجولات ما بعد الثورة، أو منطقة الالتباس الثوري، كما أسماها الكاتب محمد حربي، في قراءته للديوان. لكن آخرين كثر، قد لا يعرفون شعر خالد، ويؤمنون بإفساد الإيديولوجيا للشعر، ربما يحفزهم حب الاستطلاع، ليكتشفوا أن الشعر هو موضوع الديوان. "ترجمت قصيدةً، لبنتٍ في مدرسة الليسيه/ وأقنعت الدانماركية بأن كل المصريين شعراء.../ ولأفتنها وأدهشها.. جعلتها تتناول مأكولات الناصرية/ لم تروها وشعرها الذهبي، يسيل على ضحكتي/ وأمي تنهرني على عبث الصغار، كنت دون الخامسة عشر وقتها/ ولم تروني وقاتلي يحمل نعشي/ كنت دون السابعة عشر/ وأنا لا أستطيع أن أساعد أمي على حزنها" الديوان حالة تأمل ممتدة، تتماهى عبرها الفلسفة والشعر، ويلوح التصوف كتأويلٍ أقرب، وزاوية رؤية للثورة ومآلاتها، بإضاءة العلاقات بين لا عبيها الرئيسيين من ثوار ومنتفعين، وشهداء، ووسطاء، دون مداراةٍ لانحيازاته، ولاتهاماته أيضاً: وأنا أشتري الخبز، كان الريفيون يحملون مرضاهم للأطباء في باب اللوق../ و"ثوار كفاية".. صرخاتهم أمام مبنى القضاء العالي.../ والبنات.. المسرات.. يثبتن كبرياء الأنوثة../ وطوال اللحية، يضعون أسماء دينية على مول الكمبيوتر../ لما رجعت لأمي: قلت مالحرية؟/ لما كنت في الحادية عشر، ردت قمح الريفيين وأكبادهم". وعبر واحدٍ وعشرين قصيدةٍ، تتوسل الحكي والبنى السردي، أغلبها لأسماء آخرين أو صفات تدل عليهم، ك: "جيكا، مريم فكرى، والحسيني أبو ضيف، أو المختبئ، الفتاة الإنجيلية التي يكرهها الكهان الأربعة، ورجل الحشائش الضارة"، حضرت الذات الشاعرة أغلب القصائد، إلى حد التماهي واختفاء الحدود بين حركتها وكلامها، وحركة المسرود عنهم أو الساردين. حيث تعامل الشاعر مع قصائده ليس فقط بمنطق الراوي العليم في السرد، ولكن أيضاً بمنطق المتجادل، المعري لكهنة الزيف في الكونجرس الأمريكي، أو على المنابر، حيث السخرية من ثورات الفقراء، وتحريم الحرية "حتى يتم قطع يد السارق". وتمتد حالة التعرية لتشمل مع خدام الأفكار القبيحة للدكتاتوريين، والمتثورين الحنجوريين الذين تفرغوا لمقاومة الآخر، تعرية الذات إلى حد الجلد، خصوصاً مع ذوبان هذه الذات في من مررتهم القصائد: "منذ ذلك الوقت.. منذ ثلاثين عاماً وروحي تنزف/ قطّعتها.. وأنا أتمرس على النصل والكتابة../ أنا خادم الأفكار القبيحة... استخدمت الحبر والذهب لمحو الأرواح../ وأبهرني تاريخ السفاحين../ فلا تصدقيني حين أقول: أحبك../ فأنا أبحث عن حبٍ بعيد/ لأن مصر صارت بعيدة عني/ مذ أسس الديكتاتور.. نظام الكتابة/ الكتابة التي حرمتني حتى من الندم.." نهاية الديوان تتوالى قصائد بأسماء الشهداء: جيكا، عماد عفت، والحسيني أبو ضيف، وكأن هذا الجزء من الديوان تعليق ومراجعة لفكرة الثورة، وفكرة الشاعر ذاته عن هذه الثورة بعدما صارت ماضِ قريب، تعرى من كامل شحنته الغنائية، ومن سمة المفاجأة إلى وقع الصدمة. ومع حضور تيمة كالتأريخ، خاصة عندما يتولى هؤلاء الثلاثة الحكي، كلٌ بلسانه، تحضر القصيدة بوصفها وثيقة، سواء استطالت هذه الحوارية الممهورة بالدم، كما في قصيدة "عماد عفت"، أم تكثفت إلى حد التقطير علي لسان الحسيني أبو ضيف: "ثقبوا دماغي/ ثقبوا عدسة الكاميرا/ فذهبت لأتقط صورة الله.." هذه القصائد وغيرها تقرب الديوان من وصفه مرثية، أو سجل مراثٍ ليس فقط لوجوه الشهداء، ولا لثورةٍ ضلت الطريق، بل لشاعرٍ أيضاً "يرقب نهايتي التافهة/ كاستدلال النساك على الله". أما السمة التي لم يقدر على نفيها حضور الثورة، ورموزها، كحدثٍ يؤطره مكانٌ وأوان، فهي الكونية التي اتسمت بها أجواء القصائد/ الديوان، ومردها القريب، تلك النزعة الوجودية التي يؤول بها أحمد خالد العالم، والثورة، كتفكيك لقطبي الحياة والموت، عبر شواهد، كالزمن والأفكار، والإنسان: ماذا يكون المرء/ إذا صنع من قبلةٍ عابرة../ نفسه/ على شكل القبلة/ وهو يقصد المعنى؟ ماذا يكون للمرء/ إذا صار أبعد من أيامه/ والمكان آسن؟"