الأيتام والمسنون لا يجمعهم سوى الحرمان من الأسرة وغياب الأقارب واستمرار الوحدة، ورغم توفير سبل الرعاية لهم في المؤسسات الاجتماعية لكن ذلك لم يعوضهم عن احتضان وحنان الأسرة، فماذا يحدث عندما يجتمع من حرم من عاطفة الأبوة والأمومة مع من حرم من الأبناء في دار واحدة؟. شهدت مصر تنفيذ أول تجربة لدمج الأطفال الأيتام ومجهولي النسب مع المسنين في دار رعاية واحدة, حيث أقامت وزارة التضامن الاجتماعي مجمعًا سكنيًا بحي الصيادين بمدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية لرعاية الأطفال والكبار المشردين لخلق جو أسري يشبه علاقة الأحفاد والأجداد مع توفير كل الخدمات الصحية والتعليمية لهم. مجمع رعاية الأطفال والكبار فاقدي الرعاية هو التجربة الأولى للدمج بين الفئات العمرية المختلفة من الرجال والنساء والأطفال وهو يتكون من ثلاث بنايات منفصلة, المبنى الأول للأطفال والثاني والثالث لكبار السن أحدهما للرجال والآخر للسيدات وبينهم ساحة خارجية يجتمع فيها الأطفال مع الكبار في صباح كل يوم. مكاسب نفسية قال المستشار إيهاب جودة رئيس مجلس إدارة دار الإيواء في تصريحات خاصة ل"بوابة الأهرام"، إن المجمع بالشرقية في البداية كان يضم المبنى الخاص "بتحيا مصر" للأطفال المشردين ثم تم إسناد المبنى الثاني لجمعية "بسمة", فأصبح المجمع يضم 45 طفلا بالإضافة إلى 220 نزيلًا تم نقلهم وهم 42 سيدة, 178 رجلًا. وأضاف: "من هنا ظهرت فكرة الدمج بين الطرفين لتكوين أسرة بديلة عن التي تم حرمانهم منها والتجربة حققت نجاحًا كبيرًا, حيث أصبح المسنون والأطفال بمثابة أسرة واحدة, والإقامة الكاملة للطرفين مجانية, وتتمثل في المأكل والمشرب والملبس والرعاية الصحية من الأدوية والعمليات الجراحية اذا احتاجت الحالة". وتبلغ مساحة المجمع 4000 متر, بالإضافة إلى توافر ملعب على أحدث مستوى, ومسجد ومسطحات خضراء, وهو مكان نموذجي لتنفيذ تجربة الدمج بين الأيتام والمسنين معا. وقال حازم الملاح، المسئول الإعلامي عن برنامج أطفال وكبار بلا مأوى بوزارة التضامن الاجتماعي، في تصريحات خاصة ل"بوابة الأهرام"، إن الدار تشهد العديد من الأنشطة الترفيهية والاجتماعية التي يقوم بها الطرفان معا, من ضمنها تناول الغذاء يوميًا. أما في الوقت الحالي، خلال شهر رمضان الكريم، وفق كلام الملاح، يتم تناول الفطار سويًا, بالإضافة إلى إقامة الصلوات وحفظ القرآن الكريم, واللقاءات الثقافية, والقيام بحفلات السمر يوم الخميس من كل أسبوع, ولعب كرة القدم, وهو ما له تأثير إيجابي كبير على الطرفين. وتقوم التجربة على مبدأ وجود المسنين والأطفال معًا, بدلًا من عيش كل منهما في مكان مستقل, حيث لا يخالط ولا يتحدث إلا مع أقرانه من نفس الفئة فقط, وذلك بهدف إمدادهم بالدفء الأسري الذي يفتقدونه, والحفاظ على الحالة النفسية للكبار والصغار معًا. التأهيل النفسي وأضاف المستشار إيهاب جودة أنه في البداية قام الإخصائيون النفسيون بالمعالجة النفسية لكل فرد من الأيتام والمسنين, بهدف التصالح مع النفس أولاً, والاستعداد للاندماج مع الآخرين, ثم قاموا بتنظيم أنشطة متعددة في الحدائق لكي يتم التعارف بين الكبار والأطفال, وتحقيق الألفة بينهم. وأكد أنه كانت هناك صعوبة في بداية الأمر بسبب اكتساب كل من الأيتام والمسنين للعادات السيئة أثناء فترة إقامتهم في الشارع, وأن الأمر استغرق عدة أشهر لكي يتخلص الطرفان من هذه العادات والتعامل بثقة وأمان مع بعضهم, مما نتج عنه تحقيق الحالة النفسية الجيدة للطرفين, وتعامل كل منهما مع الآخر بحب ومودة. وفي ضوء هذه المبادرة, أصبح لكبار السن أحفاد مما نتج عنه التغلب على الشعور بالوحدة, بالإضافة إلى الأيتام الذين أحسوا أن المسنين هم أجداد لهم أحبوهم وتعلموا منهم, حيث استطاعوا تحقيق المعادلة بين طرفي فاقدي المحبة والحنان من خلال تقريبهم. وقال حازم الملاح، إن بعد نجاح البرنامج القومي لإعادة تأهيل الأطفال بلا مأوى, وتطوير ورفع كفاءة عدد 6 مؤسسات رعاية اجتماعية بالتعاون بين وزارة التضامن الاجتماعي وصندوق تحيا مصر, بالإضافة إلى اهتمام الوزارة بالكبار المشردين ظهرت الحاجة الملحة لسد احتياجات النفسية للطفل والمسن والتي تنتج عن حرمان كل منهما من الأسرة. وتهدف وزارة التضامن من ضم الطرفين معًا في مكان واحد, توفير جو أسري يسوده العطف والحنان, وتعويض كل منهما عن الأسرة التي حرموا منها, فيكون الطفل بمثابة الابن والمسن أبًا له. في سياق متصل أكد الدكتور جمال فرويز استشاري الطب النفسي, أن هذه التجربة من المسائل الهامة, وذلك لأن الأطفال بحاجة إلى رعاية وخبرة وعطف الكبار, مما ينمي شخصيتهم ويحقق لهم الصحة النفسية, بالإضافة إلى انشغال الكبار بالأطفال سينمي لديهم الشعور بالأبوة والأمومة وهما مشاعر إنسانية في غاية الأهمية, مما يرفع من المعنويات ويؤازرهم, وذلك لأنهم وجدوا لأنفسهم مهاما جديدة. كيف يتم الوصول للحالات وهناك ثلاث طرق لانضمام المشردين للدار, الطريقة الأولى هي الوحدات المتنقلة التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي, وهي وحدات مجهزة ومدعومة بفريق من المتخصصين والمؤهلين للتعامل مع هذه الحالات, والتي تقوم برصد الشوارع, وعند العثور على طفل أو مسن في الشارع من المشردين, يقوم الفريق بإقناعه بالانضمام للدار من خلال الصور والفيديوهات التابعة لمجمع الرعاية, ثم تقوم بتسليمه لإدارة المجمع. أما الطريقة الثانية، وفق كلام المستشار إيهاب جودة، فهي البلاغات التي تأتي من شرطة نجدة الطفل أو أي قسم متواجد به أطفال بلا مأوى, ثم يقوم فريق المجمع بالتوجه لمكان الطفل لأخذه. والطريقة الثالثة هي البلاغات بحالات الأيتام أو المسنين المشردين, والتي تأتي على الصفحة الرسمية لدار الإيواء, أو الصفحة الرسمية لبرنامج حماية الأطفال بلا مأوى على مواقع التواصل الاجتماعي. نجاح التجربة بالخارج والجدير بالذكر أن بعض الدول الأوربية قامت بتنفيذ هذه التجربة, وتعتبر كندا أول دولة طبقت الدمج بين دور الأيتام والمسنين, ولاقت التجربة نجاحًا كبيرًا, وذلك نتيجة احتياج كل منهما للأخر, حيث أعادت الحياة للمسنين, الذين يفقدون الأمل, واعتبروا هؤلاء الأيتام بمثابة امتداد لحياتهم, كما أنها منحت الحنان والاهتمام للأيتام الذين لم يحظوا بعيش حياة طبيعية مع أسرهم. وأكد فرويز أن العاملين بأي مؤسسة رعاية ينتهي دورهم عند توفير احتياجات الأطفال من مآكل ومشرب وملبس, حتى لو كانوا مهتمين بالأطفال لأقصى درجة ولكن تظل العاطفة مفقودة, أما تواجد المسنين معهم يجعل هؤلاء الأطفال يشعرون بوجود السند والأهل, وهو بالتأكيد يفيد الفئتين بشكل كبير ويعوضهم عن غياب عائلتهم, مما يزيد من الشعور بالطمأنينة والارتباط بالدور الاجتماعية. ويرى متخصصون في العلاقات الأسرية، أن شعور المسن بالمسئولية تجاه الطفل يعني الإحساس بالحياة مرة أخرى وتجديد الأمل لديه, مما يخلصه من الاكتئاب الناتج عن الوحدة التي يعاني منها, فتجربة الدمج هي مجال لممارسة العاطفة الإنسانية الكامنة بداخله, وذلك يعتبر مكسبا كبيرا له. الصعوبات المحتملة رغم أهمية المبادرة وأنها تستحق التجربة، لكن الكثير من الدول مازالت بعيدة تمامًا عن تنفيذها, بسبب المخاوف من الصعوبات التي من الممكن أن تواجه هذه الدول في دمج الأيتام والمسنين معًا في مؤسسة رعاية اجتماعية واحدة. وهو ما أكده الدكتور جمال فرويز أن أي تجربة جديدة من المتوقع أن تواجه بعض الصعوبات في تنفيذها, وذلك نتيجة لاختلاف طبيعة وشخصية المسن الذي يتعدى ال 60 عامًا عن الطفل الصغير, من ضمنها عدم تحمل كبار السن لصراخ الأطفال, أو تنمر واستهزاء الصغار بالمسنين, أو ع دم تقبل أي من الفئتين العيش مع الآخر، بحكم أن لكل طرف منهم متطلبات معينة. كما يشير فرويز إلى أن قد تنتج المشكلات نتيجة فقدان المسنين لمهارات التعامل مع الأطفال, ورفض الأطفال لوجود شخص مسئول عنهم, ولذلك من الضروري التعامل تدريجيًا مع هذه التجربة لكي نصل للنجاح المطلوب, مشيرًا إلى إنه ليس هناك ثوابت من الممكن تعميمها في هذا الأمر. واتجهت بعض المؤسسات الاجتماعية نحو القيام بالدمج المؤقت بين المسنين والأيتام, ليوم أو يومين أسبوعيًا, دون الإقامة الدائمة معًا, لتحقيق التواصل بينهم, وتبادل الألفة والونس, مع تجنب أي صعوبات أو سلبيات ناتجة عن الدمج الكامل بين الطرفين. أمام الإيجابيات الكثيرة للتجربة، أكد حازم الملاح أن وزارة التضامن الاجتماعي تقوم بالدراسة والبحث عن الأماكن المناسبة في بعض المحافظات للتوسع في فكرة الدمج بين الأيتام والمسنين, مؤكداً أن الوزارة لا تهدف لتعميم التجربة فقط, بل اختيار البيئة المناسبة لتنفيذ هذه التجربة لضمان نجاحها #