يضفي "رمضان" الشهر الكريم، على الكون وكائناته مسحة روحانية يشهد بها المسلم، ويتعايش معها ويشعر بها غير المسلم.. فهو في الذاكرة شهر للبركة والخير، ووقت للرجولة والجدية والعبادة الحقيقية وارتباط المخلوق بالخالق سبحانه.. يكفي أنه شهر الصوم والبعد عن كل الشرور، في المقابل فإنه يقرب بكل ما يمنح طاقة روحية ومادية أيضا.. يكفي أنه الشهر الذي شهد نزول القرآن الكريم، وفيه "ليلة القدر"، وهي ليلة خيرها أفضل من ألف شهر.. كما ارتبط رمضان بجولات وغزوات بين الحق والباطل، كانت الغلبة فيها للحق، وشهد غزوات عديدة وحروبا، فكانت مواجهات التتار في رمضان، والحروب الصليبية حدثت في رمضان، وغزوة بدر في رمضان، وجاءت حرب العبور لاستعادة سيناء في العاشر من رمضان.. وفي الوقت الذي يمنح الشهر الكريم للصائمين، طاقة تسمو بها الروح إلى آفاق عليا، ,يمنحنا طاقة لمقاومة الشر ووسوسة النفس وكل مايبعدنا عن طاعة الخالق، فإنه من جانب آخر، يستغله البعض في الهروب إلى كل مايخالف القيم ويبث الرذائل وينشر الفجور.. وجاءت فكرة "فوازير رمضان"، قبل ظهور التليفزيون في بداية الستينيات عبر البرنامج العام، وكما ذكر - د.حسام موافي - أن والده عندما سمع في الإذاعة مسابقة أُطلق عليها فوازير رمضان، قال الرجل: هذه بداية ليست طيبة في شهر رمضان، وبداية للبعد عن مقاصد الشهر الكريم وروحانياته.. واليوم وبعد مرور نحو 70 عاما من المسابقات، جاء توقع هذا الرجل مصيبا تماما.. فقد كانت هذه الكلمات صحيحة، وكانت بالفعل البداية لما وصل إليه الحال والواقع في رمضان.. وقامت شاشة التليفزيون بدورها تماما في إطلاق المسابقات والبرامج التي لا تعنى - إلا القليل منها - بنشر القيم الدينية والتقرب إلى الله سبحانه.. وليت الأمر توقف عند الفوازير فقط، بل تجاوزها إلى إطلاق إعصار من المسلسلات البعيدة عن القيم واللياقة والتربية السليمة، يصحبها دوامات من الحوارات والمسابقات التي تتبع عورات الناس وتتناول أعراضهم.. وكأن رمضان، الذي هو شهر العبادات والتقرب إلى الله، جعلوه مناسبة لكل هذه الأوزار.. وبعد شاشة التليفزيون، جاء دور مواقع التواصل الاجتماعي، التي لم تتأخر عبر الشاشات بمختلف أحجامها ومصادرها، في الدخول إلى الجانب المظلم، بل أصبحت أحد أهم الأدوات المبهرة لفعل الشيطان أو مجال ل"البهللة" كما أطلق عليه قديما وحديثا، باعتبار الوصف يستوعب كل الرذائل وصور الفسوق واشكال الخطايا والأوزار.. فإذا كان التواصل بين الناس، كما اعتادت معظم المواقع والصفحات، هو تناول الأعراض والنميمة والوشاية والتحرش اللفظي وإشاعة الفاحشة، فبئس هذا التواصل الذي لا يهتم، إلا فيما ندر، بكل ما يخالف القيم الدينية والخلقية والسلوكية والمجتمعية، برامج وميزانيات، تدخل في خانة المليارات من الجنيهات والدولارات، تنتج العري والرقص وتنشر الفضائح والفواحش، وتتبع عورات الناس.. ونتساءل: لماذا تتزايد مسلسلات الاغتصاب والتحرش والخيانة في شهر الخير.. هل لأن الشيطان يشعر بخطر التقوى وعبادة الله سبحانه.. لقد تناسينا ما جاء في القرآن الكريم، في سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)، وما جاء في الحديث: "لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته".. (ولا يغتب بعضكم بعضا) أي لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته.. وكأن الحوارات والبرامج المكتظة بالابتذال، لا تكتمل إلا بالسخرية من الآخرين.. فقد جاء في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، - الحجرات". كتبت إحدى المشاهدات عبر موقع تويتر: "يا جماعة أنا مش متدينة زيادة ولا حاجه لکن ده شهر الصلاة والصوم.. ومش قصدي خالص إننا نقلب السعوديه و نسمع قرآن 24 ساعه (ولو إن إللى عاوز يعمل کده هو حر) ممکن دراما هادفة ولها معني".. والإيمان والعبادة لهما وقع مختلف في مصر، فهي من انطلق منها علم التوحيد منذ عصر إخناتون، إلى التوحيد في الإسلام وهو نفي وجود أيّ آلهة أُخرى مع الله، ونفي الشَّبه بين الله وبين خلقه، كما انطلق منها علم الإسلام إلى العالم العربي والإسلامي، وما زالت تنشر السماحة إلى ربوع الكون.. ألا ترى معي أو تلاحظ أن المسلم المصري يختلف ويتميز عن كثير من المسلمين على مستوى العالم، وأيضا المسيحي المصري فهو مختلف ومتفوق عن نظرائه المسيحيين في البلاد والقارات، حتي اليهودي المصري تجده مختلفا عن نظرائه في دول العالم.. وفي سعيه لوضع حد لهذا الإعصار المتلفز. أطلق "المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام" محاذير لدراما رمضان، وأنه سيفعّل لائحة الجزاءات ضد المخالفين، وحدد عددًا من المعايير لوسائل الإعلام وصناع الدراما للالتزام بها منها: عدم اللجوء إلى الألفاظ البذيئة وفاحش القول والحوارات المتدنية، والبعد عن إقحام الشتائم والسباب والمشاهد الفجة في الأعمال الدرامية، وعدم استخدام تعبيرات وألفاظ تحمل للمشاهد والمتلقي إيحاءات مسيئة، والتوقف عن تمجيد الجريمة باصطناع أبطال وهميين، وضرورة خلو هذه الأعمال من العنف غير المبرر والحض على الكراهية والتمييز وتحقير الإنسان، وتأكيد الصورة الإيجابية للمرأة، والبعد عن الأعمال التي تشوه صورتها عمداً، أو التي تحمل الإثارة الجنسية سواء قولًا أو تجسيدًا، وتجنب مشاهد التدخين وتعاطي المخدرات، والتوقف عن تجاهل القانون، والتوقف عن معالجة الموضوعات التي تكرس الخرافة والتطرف الديني كحل للمشكلات الدنيوية، وضرورة الحد من استخدام القوالب الجاهزة المستوردة "التركي - الإسباني - الهندي.. إلخ" وتكييف الموضوعات والشكل للحفاظ على الهوية المصرية للأعمال الفنية. هذه المحاذير مهمة، ولكن أين آلية الجزاءات والتطبيق الرادع والفوري، الذي يواجه إعصار الابتذال المستمر؟! [email protected]