د. خالد قنديل في المسافة بين الماضي البعيد لتاريخ مزدهر وعظمة حاضر يتطلع إلى مستقبل لا يقل ازدهارا عن مسيرة الأجداد، احتفلت مصر برجالها ونسائها وشيوخها وأطفالها، وأمام أنظار واهتمام العالم كله، بحدث تاريخى يعد الأبرز فى مبتدأ العقد الثالث من الألفية الثالثة، والذى تمثل فى الحفل المهيب لموكب نقل المومياوات الملكية، حيث نقلت اثنتان وعشرون مومياء ملكية، 18 مومياء لملوك، و4 مومياوات لملكات، من المتحف المصرى فى ميدان التحرير إلى المتحف القومى للحضارة المصرية فى الفسطاط. تحرك موكب المومياوات الملكية، الذي كان في انتظاره قائد البلاد الرئيس السيسي، في مشهد لفت أنظار القاصي والداني، وكانت مصر على الموعد، وقد شهدت شوارع القاهرة مرور التاريخ عبر أرجائها، ونفحات العظام تضفي على المشهد هالة من الهيبة التي تصاحب روح الحدث، وتناسب قيمة هؤلاء الذين تركوا لنا إرثا أعجز الكون من بعدهم، لذا حظي الاحتفال باهتمام عالمي كبير، غطته أكثر من 400 قناة تليفزيونية، واهتمت الصحافة العالمية بتغطيته، وقد أشار الجميع إلى أن مومياوات مصر تمر عبر القاهرة في موكب الحكام القدماء، والمصريون يشهدون موكبًا تاريخيًا لحكام بلادهم القدماء عبر العاصمة العريقة. وقاد الملك سقنن رع، موكب الملوك في رحلتهم الأخيرة إلى متحف الحضارة بطريقة تميزت بالإجلال، بعد أن قضوا 100 عام في المتحف المصري بالتحرير، وتحرك الموكب من خلال عربات مزينة برسومات ونقوش فرعونية ومجهزة بجو خاص وحملت كل عربة اسم الملك الموجود بداخلها، وسط حراسة أمنية مشددة وتقدم الموكب الدراجات النارية للحرس الجمهوري، وقد زُينت الشوارع والميادين فى مسار الموكب الملكى بإضاءة رائعة، إضافة إلى حفل غنائى مبهر، ولم تكن هذه الصورة لتنتقل إلى جميع دول العالم، لولا هذا الإخراج البديع والعمل الجماعي الدقيق والمنظم الذي أشعرنا جميعا بالفخر، وأن جينات أجدادنا لا تزال لصيقة بالأبناء الذين يمثلون امتدادا لخير سلف كان سببا في عمار الأرض بالعلوم والفن والجمال. وبأنشودة فرعونية لاقت إعجاب الكثيرين والثناء الواسع حيث التماس الروحي مع أجداد عظام رغم مسافة تجاوز ال4000 آلاف عام، إذ كانت مختارات من ترانيم المهابة لإيزيس من معبد دير الشلويط، ومختارات من نصوص الأهرام، وعلى مدار قرابة الثلاث ساعات، أبهر جمال الصورة والتنظيم والإخراج للاحتفال الفخم الشاهد على عظمة مصر، العالم بأسره. وهنا ربما تجدر الإشارة إلى فرصة التسويق خلال هذا الحدث المهيب الكبير المبهر الذي لا يتكرر كثيرا، حيث كانت فرصة لتفعيل كثير من الأفكار المؤثرة والجاذبة واللافتة لهذه الحضارة العريقة وهذا البلد الأمين، فكما تم استخدام قوة مصر الناعمة من فنانين للترويج للحدث، كان من الممكن أيضا دعوة عدد من العلماء البارزين في العالم بعلم المصريات من دول مختلفة كفرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها للتعليق على الحدث عبر بث مواز لقنوات عديدة يتحدث كل منهم عن تاريخ مصر وملوكها ومهندسيها القدماء وكيف أن مصر في الوقت الراهن تعمل على البناء والتنمية بروح لا تقل حماسا ولا استعدادا ولا إصرارا ولا قدرة عن تلك الروح القديمة التي تمتد في عقول وقلوب الأجيال، يتحدثون وهم ينقلون الحدث غبر منصات أو عبر أفلام قصيرة معدة للعرض بالتوازي مع الحدث لحظة بلحظة. كما أن الحدث كان فرصة أكبر لتسليط الضوء على نهر النيل في الوقت الحالي، ذلك النهر العظيم، الذي يعد هبة الآلهة، وعندما يفيض يجلب الرخاء والخصوبة، والمصريون القدماء ساووا بينه وبين الحياة نفسها، ونظموا حياتهم اليومية بالاعتماد على ارتفاع وانخفاض منسوب مياهه، فأصبح النيل يحدد التقويم المصري بمواسمه الثلاثة، الفيضان، الزراعة، والحصاد، ولأن النيل يعني الحياة، فإنه عندما يفيض يجلب الرخاء والخصوبة للتربة والبشر المحيطين به، لكن إذا ارتفع منسوب مياهه أكثر من اللازم يفقد الناس منازلهم الطينية، وإذا لم يرتفع المنسوب بما يكفي تحدث المجاعات، وكانت فرصة طيبة للإشارة إلى هذا النهر العظيم وأهميته لحياة أمة صنعت التاريخ وعمرت الأرض في وقت تتلقى فيه تهديدا في أغلى شريان للحياة لديها عبر تعنت إثيوبي لا يريد للحياة سلاما واستقرارا. ومن وجهة نظري المتواضعة – وهذا لا يقلل إطلاقا من روعة الحفل العالمي – أن ما كان ينقص الحفل هو تسليط الضوء أكثر على المتخصصين والخبراء المصريين الذين قاموا بعملية النقل بأسلوب في غاية التعقيد، لتلافي أي خطأ قد يتسبب في تلف أي من هذه المومياوات العظيمة، وذلك من خلال تقرير مصور يضاف إلى التقارير الرائعة التي استعرضت أهم المواقع الأثرية المصرية، إلا أنه ورغم ذلك.. وجب علينا أن نرسل كل التحية والتقدير والشعور بالفخر والامتنان لكل من أسهم في خروج هذا الحفل الكبير والمبهر والمبهج في آن إلى أنوار الدنيا، حتى أيقن العالم أنه أمام حضارة لا تنفد روافدها ولا يزال أبناؤها على العهد ماضين وعلى الدرب سائرين.