اعتبر البعض زيارة وفد مصري هذا الأسبوع لطرابلس لترتيب إعادة فتح السفارة في العاصمة الليبية، والقنصلية في مدينة بنغازي، خطوة لاستعادة دور مصر فى ليبيا، ولم يلتفت هؤلاء إلى أنه لم يكن هناك غياب أصلا منذ زمن، حيث فرضت أولويات الحفاظ على الأمن القومي نفسها، وقادت لتحركات مختلفة أكدت أن ليبيا في بؤرة اهتمامات مصر. حالت فوضى السلاح فى طرابلس وبعض المدن الليبية دون وجود بعثة دبلوماسية دائمة منذ نحو سبعة أعوام، لكنها لم تحل دون وجود لجنة وطنية على مستوى عال يرأسها الوزير عباس كامل رئيس جهاز المخابرات العامة، وإدارة دبلوماسية يرأسهاالسفير محمد أبوبكر تحت إشراف وزير الخارجية سامح شكري، لم تأل أى منهما جهدا فى الحوار والنقاش مع جميع القوى والشخصيات الوطنية فى ليبيا. كانت مصر، ولا تزال، قريبة من تفاصيل الأزمة بكل عناوينها وفروعها وتفاصيلها، فبحكم الجغرافيا السياسية والقيمة الإستراتيجية يصعب حدوث تجاهل، وبسبب تحول أجزاء من أراضى ليبيا إلى ملاذات لمتطرفين وإرهابيين ومرتزقة، تضاعفت التحركات، وأصبحت ذات جدوى فائقة، وفرضت التهديدات الخارجية وما صاحبها من تداعيات سلبية أن تكون الإدارة المصرية بكل أجهزتها الأمنية والعسكرية والدبلوماسية قريبة من التطورات المعلنة والخفية. تركت القاهرة بصماتها فى كل مبادرة أو اجتماع على المستويين الإقليمى والدولي، وقامت بالتنسيق المباشر مع المسئولين فى ليبيا، وهم يمثلون جهات سياسية وعسكرية واجتماعية وطنية، وانخرطت فى حوارات متواصلة مع قوى كبرى لمنع حدوث المزيد من الانفلات فى الأزمة، . تفاهمت مصر مع بعثة الدعم السياسى فى ليبيا تحت قيادة الأممالمتحدة على خطوط عريضة وكثيرة ومنتجة، وأدى التنسيق المتعدد الأوجه والمسارات إلى ضبط البوصلة حيال التسوية المطلوبة، والابتعاد عن الخيارات المدمرة لوحدة واستقرار الدولة، والتعاون لتوحيد المؤسسات النظامية، والتوافق على ضرورة التخلص من الميليشيات والعناصر التى أدت إلى استنزاف موارد الدولة، وتحولت فى مرحلة لاحقة لقاعدة تستند عليها تركيا فى تمددها داخل البلاد، بما أربك بعض الحسابات. تبعث تجهيزات فتح السفارة المصرية فى طرابلس والقنصلية فى بنغازى برسالة تطمين واضحة إلى كل من رئيس المجلس الرئاسى محمد المنفي، ورئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة، بأن القاهرة تتصرف عمليًا لنجاح تحركاتهما الوطنية، وتؤكد أنها منفتحة على جميع القيادات الحريصة على عدم توريط ليبيا فى تحالفات أجنبية، فمصر تعمل بجدية نحو تثبيت الحل السياسي، ولا تفرق بين غرب وشرق أو جنوب. وتقف حتى النهاية مع أمن واستقرار ووحدة ليبيا، ولن تتوانى فى دعم كل خطوة سياسية تقود إلى هذه النتيجة،والتى ظلت متمسكة بها فى وقت كانت تشهد الكثير من الأراضى الليبية معارك طاحنة، ولن تتردد وقتها فى التعامل بقسوة مع من يمثلون تهديدا للأمن القومى المصري. من الشجاعة ألا تعمل السلطة التنفيذية الجديدة فى ليبيا اعتبارا كبيرا لتركيا، وتقف بجوار الشعب الذى يطالب بخروج جميع القوات الأجنبية، كما أن غالبية القوى الدولية تطالب بذلك، فالولايات المتحدة أعلنت ذلك أخيرا بلا مواربة. ما هو الحرج أن نسمع السيد الدبيبة يطالب بذلك وبوضوح، فالتماهى مع أنقرة غير مستحب، وعليه إنكار ذاته والمضى فى الاتجاه الصحيح، ويغير قناعة الليبيين بأنه رجل تركيا بالفعل وليس بالقول، واستثمار الفرصة الراهنة للتخلص من التدخلات الخارجية العسكرية، أم يعتزم إدخال بلده فى نزاع مرير بين تركيا ودول غربية لها مصالح فى ليبيا تريد أنقرة الهيمنة عليها؟ ليس تشكيكا فى وطنية الرجل المحسوب على أنقرة حتى الآن، لكن تبرئة لساحته السياسية وتأكيدا لحرصه على خروج بلاده من هذه الدائرة الجهنمية، فاستمرار رحلات الطيران التركية المشبوهة يحمل افتئاتا على سيادة ليبيا، ويمثل إهانة لشعبها، وتاريخها مع الأتراك معروف، ولا أريد أن أنكأ الجراح. نتمنى أن تساعد القيادة الجديدة التحركات المصرية للتخلص من وجود تركيا الكثيف، التى قالت إنها جاءت لتبقى وتستغل ثروات ليبيا، وعلى الدبيبة الابتعاد عن الاتفاقيات والمعاهدات التى وقعها رئيس حكومة الوفاق فايز السراج مع أنقرة، ويعلن صراحة براءته منها، ولو عمل بجدية لتحقيق الأمن والاستقرار والاستقلال الوطنى سوف تكون هناك مطالبات باستمراره، فالشعب وقتها سيدحض أى ممانعات سياسية. إذا ركز الدبيبة أيضا على القطاع الخدمى والتنموى سوف تكون أمامه فرصة مضاعفة، كجزء إيجابى فى شخصيته، فهو رجل أعمال معروف ونشيط، ولا يجب التعلل بالعقود الموقعة مع تركيا سابقا، لأنها تنطوى على شبهات فساد ومغالاة. وقد جرى تحميل الجانب الليبى بخطابات ضمان لتركيا، وهو خطأ ارتكبه الصدّيق الكبير رئيس المصرف المركزي، حيث وضع مسئولية تضامنية بين البنوك الليبية ونظيرتها التركية، واستغلت أنقرة ضعف الدولة وقت الحرب وأقنعت الصدّيق رفع المسئولية عن خطابات الضمان الخاصة بالشركات التى لم تحصل على مستحقاتها وحمّل بلاده التكلفة كاملة وخسرت خزانتها مليارات الدولارات. وقفت مصر ضد الحرب منذ البداية، لأنها تعرف مآلاتها، ونادت بالتسوية السياسية، لأنها تعلم أهميتها كسبيل وحيد لحل الأزمة. ولذلك لم ينقطع كل المسئولين الليبيين عن مصر، حيث يعلمون أنها ملمة بجميع تفاصيل الأزمة، وبها مؤسسات تدرس كل الأمور بعناية، ولم تعبأ ببعض اللاعبين الإقليميين المشاغبين الذين سعوا إلى فرض صورة كاذبة لتحقيق أهدافهم. يكشف فتح السفارة والقنصلية المصريتين فى طرابلس وبنغازى عن عمق العلاقات المشتركة بين البلدين. فهناك جالية مصرية كبيرة فى ليبيا، ومصالح لمواطنين ليبيين فى مصر، وأسر وعائلات مختلطة بسبب التداخل الاجتماعي، وضغط لا يتوقف على الخدمات القنصلية فى الشرق والغرب، وكان لابد من قرار مصرى صميم يتعامل مع هذه المطالب، فى توقيت مهم، ويحمل رسالة تعاون مع القيادة السياسية الجديدة، ورغبة فى نجاح مهمتها.