تكتب إذاعة جلسات مجلس النواب، واحدة من مظاهر الشفافية التى تسمح للمواطن بالنفاذ إلى أفكار المسئولين التنفيذيين، وتبيان نظرتهم للأمور مباشرة، وبعيدًا عن البيانات الرسمية التى قد لا تكشف عن الكيفية التى يفكر بها المسئول. والحقيقة أننى توقفت أمام ما صرح به السيد وزير السياحة والآثار فى مجلس النواب: لو هانسجل كل مبنى عمره 100 سنة فأكثر هنسجل نص بيوت البلد، وقلت فى داخلى وما المانع؟ والله هذا فخر لنا.. ومدعاة لأن نزهو بهذا الوطن أكثر وأكثر.. ما المانع؟! ما الذى يجعل من القيمة التاريخية موضعًا للهجة التى تكلم بها السيد المسئول... كنت أتصور أن التراكم المعمارى التاريخى الذى حظيت به مصر ينبغى أن يكون مصدرًا للتميز، بل والشعور بالغنى والثراء. كيف لا ندرك الدلالة لمعنى أنه بينما كانت مصر تزخر بالقصور والعمارات والأبنية المتعددة الطرازات.. هذا المسار الحضارى المتصل، الذى ينفى ان تراث المصرى مقتصر على القدم الفرعونى وحده، والذى يبرز سياقا تاريخيا حضاريا متتاليا ومستمرا، كيف لا يتحول الى كنز... الحى اللاتينى فى باريس، الذى منه السان ميشيل والسان جيرمان، هو البيضة التى تبيض ذهبا لفرنسا، كم عمر مبانيها ومقاهيها ومحلاتها؟ وكيف يتعامل الفرنسيون معها. هذه المنطقة القديمة هى الجمالية بتاع فرنسا.. والحفاظ عليها لم يكن بالحفاظ على المبنى أو الأثر فقط او فى حد ذاته، بل الحفاظ على كل تفاصيل المشهد. لا يمكن أن تغير مفصلة باب بعيدًا عن الحي. وعبقرية المنطقة وثراؤها وقيمتها هى فى التفاصيل التى بقيت واستمرت وسوف تستمر.. فى قهوة كان يجلس عليها كتاب، وفندق اقام به شاعر، ومطعم مازال يقدم الاكل على طريقة ليون، وجزار..إلخ.. هل لم يكن بامكانهم مثلا ان يكتفوا بالبيوت ويزيلوا معامل الجبنة؟ قبل سنوات كانت هناك وزيرة للثقافة، كانت تعمل فى مجال النشر قبل الوزارة، وكان مقر بيت النشر الذى تديره موجودا فى الحى اللاتينى، اكتشفوا بعد توليها الوزارة انها ارتكبت جريمة.. انها قامت باستقطاع او تخليق، ركن صغير لعمل القهوة داخل المبنى، وقامت القيامة فى الصحافة والمجالس المحلية والنيابية وتحول الامر ليس فقط الى جريمة، بل وفضيحة ، حتى أجبرت على الاستقالة.. الحى اللاتينى هو قيمة تاريخية و ثقافية وروحية، تحولت مع الإدراك لها الى قيمة سوقية مالية لا تقدر.. الاثرياء فقط هم القادرون على اقتناء شقة بضعة امتار فيها.... المبنى الذى تشغله البعثة المصرية فى نيويورك، عمره لا يزيد على ثمانين عاما، ولا يمكن حتى دق مسمار فى داخله دون ورق وتصاريح .. الدول المحيطة بنا اقليميا، لما راحت تبنى الحداثة، اصطنعت تاريخا واشترت تاريخا واستعارت تاريخا، نقوم احنا نبص للمبنى اللى عمره ميت سنة على انه عبء!؟. اقتصار مفهوم الحفاظ على التراث على انه الاثر المسجل وحده سوف يطمس، يمسح تاريخا حقيقيا لا يقدر.. ولا يستعاض، استاذة التاريخ بالجامعة الامريكية الدكتورة مونيكا حنا، كنت اتمنى ان استأذنها فيما كتبته على صفحتها الخاصة عن نماذج التعامل مع التراث فى ايطاليا، التى لم تفرط حتى فى المكن الخردة الذى خرج من الخدمة بحكم التطور ولم تهدم مساكن محوّلجى القطارات وحولتها لمطاعم، وأتمنى لو تنشر وجهة نظرها حول التراث وعلاقته بتاريخ المجتمع وقيمته، لكنى سوف استعير منها ما كتبته و فق اليونسكو او وفق اتفاقية اليونسكو عام 1972فى التعريف بالمبانى التراثية انها: كل المبانى التى لها قيمة تاريخية، فنية، علمية، او ما يتفق عليه المجتمع المحيط ان له قيمة مجتمعية لهم والحقيقة ان صوت الدكتورة ليس منفردا هناك اصوات اخرى لمتخصصين يستشعرون خطر تلك الرؤية التى تقصر النظر الى التراث وتحصره فى الاثر المسجل.. السيد وزير الآثار والسياحة قدم فى جلسة مجلس النواب تعريفا للأثر على انه المبنى الذى مضى عليه مائة عام ، وقت صدور قانون الاثار سنة 1883 ، و هذا توجه لا يستقيم و بلد يريد ان يحفظ هويته و ذاكرته.. وهذا جوهر صراعنا الاخطر ..السياق او المشهد الموجود حول الاثر، جزء من قيمة الاثر... اما ما نبه اليه فى نفس الجلسة السيد الوزير من ان الحدائق والاشجار ليست آثارا، يجعلنا نفكر فى مصير حدائق الاسماك والأورمان والحيوان، ونتساءل لماذا يحتفظ الفرنسيون بحديقة التويلوري؟.