عادت موسكو لتسقط هدفا لممارسات التدخل الخارجى من جانب الولاياتالمتحدة، التى اختارت «سيناريو بيلاروس» سبيلا إلى تحقيق أهداف «الثورات الملونة فى الفضاء السوفيتى السابق». وعادت المعارضة الروسية ليبرالية التوجهات وغربية الهوى، لتكون سلاح الخارج فى شئون الداخل.وبين هذا وذاك يسقط كثيرون من أبناء الدولة الروسية فريسة أخطاء الطرفين حكومة ومعارضة، وهو ما يتابع العالم مشاهده التى توالت عاصفة جارفة خلال الأسابيع القليلة الماضية منذ اندلاع المظاهرات فى موسكو وكبريات المدن الروسية، فى توقيت يشهد تحولا كان متوقعا من جانب الرئيس الأمريكى جو بايدن بتصريحاته التى وصفها الكرملين ب «العدوانية وغير البناءة» وكان استبق مراسم تنصيبه بوصف روسيا بأنها «العدو» لبلاده. الأحداث تستمد بدايتها من حادث «تسمم» المعارض الروسي، الكسى نافالنى الذى يشغل رسميا منصب «رئيس صندوق مكافحة الفساد» الذى تعمل بعض فصائل المعارضة من وراء ستاره، بتمويل سافرٍ سخيٍ من الخارج. ومن هذا التاريخ تبدأ فصول ما يشهده الداخل والخارج من أحداث أرادت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها أن تجرى بموجب «سيناريو بيلاروس»، الذى حدد ملامح تحركات المعارضة فى بيلاروس منذ إعلانها عن عدم قبول نتائج الانتخابات الرئاسية هناك فى أغسطس الماضي. التحليلات الخاطئة تتواصل تباعا فى حق روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين. والمقدمات دوما تحدد النتائج. فما شهدته وتشهده روسيا من تحركات ممثلى «المعارضة» فى روسيا لا تزال محدودة وتقتصر على خروج المتظاهرين إلى شوارع موسكو وكبريات المدن الروسية، «احتجاجا» على اعتقال نافالني. ولعل المتابع لما جرى خلال الأسابيع القليلة الماضية، وبداية من تاريخ إعداد وبث الشريط الوثائقى «قصر بوتين» حتى عودة نافالنى إلى الوطن بعد علاجه فى ألمانيا من «تسمم» أصابه فى أغسطس من العام الماضي، لا يزال الغموض يكتنف كثيرا من أسبابه ونتائجه، يقول ببعض ارتباك فى المعالجة، بسبب قصور يشوب تقديرات ما يسود الساحة الروسية من احتقان مشوب بالسخط والغضب، يزيد من حدتهما اعتقال نافالنى فور عودته من الخارج وإصدار الحكم بسجنه تنفيذا لحكم سابق كان صدر بحقه مع «إيقاف التنفيذ». وكان نافالنى قد استبق عودته إلى موسكو بعدد من الخطوات الاستفزازية التى قام بها من أجل السقوط «عامدا متعمدا» فى قبضة الأجهزة الأمنية الروسية، فى معرض الاستعداد لسلسلة من التظاهرات والفعاليات السياسية الجماهيرية المعارضة للنظام القائم. ومن هذه الخطوات ما وجهه من انتقادات للسلطات الرسمية، و«المشاركة» فى إعداد الشريط الوثائقى «قصر بوتين» على شاطئ البحر الأسود، بما تبعه من نسبة مشاهدة واسعة النطاق بلغت ما يقرب من مائة مليون مشاهد خلال ما يقل عن أسبوعين، إلى جانب ما أدلى به من تصريحات وأحاديث استفز من خلالها الأجهزة الرسمية الروسية، وطالت شخص الرئيس بوتين، بما فى ذلك ما يتعلق بماضيه سواء فى ألمانياالشرقية حيث كان يعمل فى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فى بعثة «كى جى بي» فى دريزدن، أو بعد عودته إلى مدينته الأم لينينجراد – سان بطرسبورج فى عام 1990. وكانت المصادر الغربية، ومنها صحيفة Schwarzwälder Bote » » الألمانية كشفت عن أن الشريط الوثائقى «قصر بوتين» جرى إعداده فى استوديوهات «Black Forest Studios» فى ألمانيا، بمشاركة أمريكية. وبغض النظر عن مدى صحة أو عدم صحة ما جاء فى ذلك الشريط الوثائقى من معلومات جرى تناولها من منظور يخدم أهداف نافالنى ومن يدعم تحركاته ونشاطه، فإن ما جرى ويجرى نشره من معلومات، لا يمكن أن يكون وحده تفسيرا لخروج كثيرين ممن شاركوا فى المظاهرات التى خرجت إلى شوارع موسكو وكبريات المدن الروسية. وتقول الشواهد والمتابعة إن خروج هؤلاء للتظاهر جنبا إلى جنب مع مناصرى ومؤيدى المعارض الروسى نافالنى خلال الأسبوعين الماضيين، لم يكن تأييدا لنافالنى أو انحيازا لشعاراته، بقدر ما كان ذلك احتجاجا مباشرا على ما يعيشونه من متاعب ومشاكل اقتصادية ومعيشية. ومع ذلك فلم تزد نسبة المتظاهرين فى كل روسيا وحسب تقديرات المصادر المحلية والأجنبية ومنها «فايننشال تايمز» اللندنية عن مائة ألف متظاهر لا يمكن أن تقارن بنسبة تقترب من 60% من سكان روسيا ممن يظلون مؤيدين للنظام القائم. ورغم ركاكة كثير من أساليب الإعلام الرسمى الروسي، وما أسفر عن ممارساته وأساليبه «الفجًة» الخاطئة، من ردود فعل عكسية فى غير صالح بوتين والسلطة الرسمية، فإن ما نشهده من تأييد سافر كامل العدد من جانب الأوساط الغربية والأجهزة الاستخباراتية لمواقف وتصريحات وتحركات نافالنى وأنصاره، ينذر بتحركات مريبة وردود فعل بدأت تتوالى تباعا. ومن ذلك ما شهدناه من تدفق الاحتجاجات من جانب ممثلى الكثير من الدوائر الغربية على الحكم الصادر بسجن نافالني، وهو ما توجه به الرئيس الأمريكى بتهديدات سافرة للكرملين. ومن اللافت فى هذا الصدد أنه على الرغم من صراحة تأييد الدوائر الغربية لمظاهرات «المعارضة» فى موسكو، وما يتردد حول محاولات تطبيق «سيناريو بيلاروس» للإطاحة بنظام بوتين، توقفت الأوساط السياسية والإعلامية بكثير من الدهشة عند سرعة إعلان الإدارة الأمريكية الجديدة والكرملين عن اتفاقهما حول تمديد معاهدة «ستارت-3»، لفترة جديدة مدتها خمس سنوات، وهى التى كان الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب أعلن عن قراره برفض تمديدها. وذلك ما استجاب له أيضا وبسرعة غير متوقعة، الرئيس بوتين الذى أحال المعاهدة إلى مجلسى الدوما والاتحاد حيث جرت مراسم التصديق عليها خلال ساعات معدودات، ليقوم بوتين بإصدار قراره النهائى لتصبح المعاهدة سارية المفعول لمدة جديدة تبدأ مع الخامس من فبراير الحالى. وكل ذلك خلال أيام معدودات.ولم يقتصر الأمر على «التصديق فائق السرعة» من جانب موسكو، حيث سرعان ما تواردت الأنباء لتعلن عن تفكير موسكو فى التراجع عن قرارها الصادر بتاريخ 15 يناير الماضى بشأن الخروج من «معاهدة السماوات المفتوحة» احتجاجا على قرار الإدارة الأمريكية السابقة بشأن خروج الولاياتالمتحدة منها، وهو ما أعقبه إعلان مفاجئ من جانب وزارة الخارجية الأمريكية التى كشفت عن « أن واشنطن تدرس مسألة عودتها إلى معاهدة «السماوات المفتوحة» التى كانت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب أعلنت الانسحاب منها». وكان ديمترى بيسكوف الناطق الرسمى باسم الرئيس بوتين أعلن «أن الكرملين لا يستبعد إمكانية تراجع روسيا عن قرار الانسحاب من معاهدة «السماوات المفتوحة» تبعا للولايات المتحدة، بعد اتفاق الدولتين على تمديد معاهدة «ستارت3». وفى تصريحات أخرى يوم الأربعاء الماضى (3 فبراير الحالى) أشار بيسكوف إلى أن فترة زمنية لا تزال متوافرة قبل انسحاب روسيا فعليا من «السماوات المفتوحة»، فيما أكد « أن الفرصة لا تزال قائمة لمواصلة الحوار بشأن مصير هذه المعاهدة إن كانت الولاياتالمتحدة مستعدة لذلك». وكان الرئيس بوتين بادر بالاتصال بنظيره الأمريكى بايدن حيث تناول معه عددا من قضايا العلاقات الثنائية ومنها موقف روسيا من هذه المعاهدة. وقال بيسكوف إن بوتين تطرق فى مكالمته مع بايدن إلى موقف موسكو من هذه المعاهدة وعزا إعلانها عن الخروج منها إلى أنها وبعد قرار الولاياتالمتحدة الانسحاب من معاهدة «السماوات المفتوحة»، بحثت عن سبل للبقاء ضمن هذه المعاهدة لكن هذه المساعى لم تتوج بنجاح ولم تؤد المفاوضات مع الأوروبيين إلى أى نتائج إيجابية، ما دفع الجانب الروسى إلى إطلاق عملية الانسحاب أيضا». غير أن مصادر الكرملين لم تكشف فى حينه ما عاد وكشف عنه بايدن بشأن احتجاجه على كثير من القضايا التى تعدها روسيا من صميم شئونها الداخلية. وفيما حاولت مصادر الكرملين تجاوز التعليق على ما شاب مكالمة الرئيسين بوتين وبايدن من توتر مكتوم فيما يتعلق بالقضايا الخلافية، والتركيز على النقاط الإيجابية فقط، ومنها ما يتعلق بالتعاون فى مجالات الحد من التسلح والبرنامج النووى الإيراني، عاد الرئيس الأمريكى بايدن فى أول خطاب يتناول فيه مواقف بلاده من قضايا السياسة الخارجية الأمريكية إلى لهجة الغطرسة والتسلط بقوله إن « أمريكا عادت وإنها سوف تكون أكثر قسوة وتشددا فى حماية مصالحها». وكان البيت الأبيض أصدر بيانا جاء فيه أنّ «الرئيس بايدن كان واضحا فى أنّ الولاياتالمتحدة ستتصرف بحزم للدفاع عن مصالحها الوطنية، ردّا على أى أفعال من روسيا قد تضرّ بنا أو بحلفائنا». وأضاف «أن الرئيسين ناقشا فى اتصالهما التليفونى الأول الهجوم السيبرانى الكبير على شركة «سولار ويندوز»، وكذلك التقارير التى تقول إن روسيا وضعت مكافآت مقابل قتل جنود أمريكيين فى أفغانستان، وموضوع تسميم المعارض ألكسى نافالني». وفيما نقلت المصادر الغربية ما وصفته بإشارة بايدن إلى «أنه سيكون أكثر قسوة مع فلاديمير بوتين من دونالد ترامب، الذى رفض مواجهة الكرملين، وشكّك مرارا بتدخل روسيا فى انتخابات عام 2016»، قالت مصادر الكرملين « إن بوتين أشار إلى أن تطبيع العلاقات بين روسياوالولاياتالمتحدة، من شأنه أن يلبّى مصالح البلدين، مع الأخذ بالاعتبار مسئوليتهما الخاصة فى الحفاظ على الأمن والاستقرار فى العالم للمجتمع الدولى بأسره». لكنها عادت وانتفضت لترد على ما قاله الرئيس الأمريكى فى خطابه الذى ألقاه فى وزارة الخارجية الامريكية، وتهديداته السافرة بأنه سوف يتخذ موقفا متشددا تجاه «حقوق الإنسان ونوايا بوتين فى أوروبا»، فضلا عن مطالبته الصريحة بالإفراج عن المعارض الروسى فورا، وما قال أنه أبلغ به نظيره الروسى بوتين فى مكالمتهما الهاتفية حول «ان أيام تراجع الولاياتالمتحدة أمام التصرفات العدوانية لروسيا وتدخلاتها فى الانتخابات الامريكية وهجماتها السيبرانية وتسميمها للمواطنين انتهت». وبهذا الصدد تحديدا أعرب ديمترى بيسكوف الناطق الرسمى باسم الكرملين عن أسفه لما وصفه ب «التصريحات العدوانية وغير البناءة للرئيس الأمريكي، جو بايدن، التى أعلن فيها أثناء خطابه بوزارة الخارجية الأمريكية أن بلاده ستجبر روسيا على «دفع» ثمن أفعالها». ومضى بيسكوف ليقول ان «ملاحظات الإنذار» فى تصريحات بايدن الأخيرة أمر غير مقبول تماما». وأضاف «لقد قلنا إننا لا ننوى الإصغاء لأى تصريحات من هذا النوع، أو أى بيانات توجيه«. وكان وزيرا خارجية البلدين سيرجى لافروف وانتونى بلينكن أجريا اتصالا هاتفيا أكد فيه الوزير الروسى استعداد بلاده لتطبيع العلاقات بين البلدين على أساس توازن المصالح والاحترام المتبادل وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، وإن أشارا إلى تباين المواقف تجاه عدد من القضايا وفى مقدمتها ما يتعلق بقضية نافالنى التى قال لافروف إنها مسالة داخلية يجرى النظر فيها من «منظور احترام القوانين الروسية ونظامها القضائي». على أن ذلك لم يمنع اتفاق الوزيرين تجاه ضرورة التعاون بين الجانبين «فى التسوية السلمية فى كل من سوريا وليبيا، إضافة إلى الأوضاع فى أوكرانيا». ومن هنا يمكن توقع أن كل أبواب العلاقات بين البلدين تظل مشرعة أمام جميع الاحتمالات.