يتساءل كثيرون فى روسيا وخارجها عن الأسباب التى تحول دون تهنئة الرئيس فلاديمير بوتين للرئيس الأمريكى المنتخب جو بايدن بفوزه فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، حيث يكاد الرئيس بوتين يكون الرئيس الوحيد الذى لم يتقدم بعد بالتهنئة إلى بايدن . ويعزو الكرملين تأخر تهنئة بوتين ل بايدن ، لأسباب تتعلق فى جوهرها بالشكليات، وهو الذى سارع بتهنئة الرئيس ألكسندر لوكاشينكو قبل إعلان النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية فى بيلاروس، رغم كل الاضطرابات والاحتجاجات التى تفجرت فى بيلاروس مساء ذات يوم الانتخابات. وكان بوتين فعل نفس الشيء بالنسبة للانتخابات البرلمانية فى قيرغيزستان، التى اعترف بمشروعيتها فى برقية إلى نظيره سورونباى جينيبيكوف رئيس قيرغيزستان السابق، قبل اضطرار الأخير رسميا إلى النزول على إرادة الجماهير الغاضبة هناك، وموافقته على إعادتها قبل الإطاحة به من منصبه. على أن مسألة التهنئة تبقى بالفعل مسألة شكلية، رغم علم كل من الجانبين بأنها من الشكليات، التى تظل على ارتباط وثيق مع المضمون الذى يبدو جليا واضحا، ويتمثل فى أن موسكو تقبل«الأسوأ» من خيارين، كان أحلاهما بالنسبة لها مُرْاً. وكان الرئيس بوتين علق على ذلك صراحة فى حديثه إلى البرنامج الحوارى « موسكو . الكرملين . بوتين »، بقوله، إن الأمر لا يتعلق بان هذا الرئيس أو ذاك، يعجبنا أو لا يعجبنا. إننا وفى بساطة، ننتظر نهاية الجدل الذى يحتدم فى الداخل الأمريكي». وأضاف بوتين «أن روسيا تعمل بما يتفق والواقع القائم، والجانب القانونى للمسألة»، مؤكدا «أنها سوف تتعامل مع أى شخص يمنحه الشعب الأمريكى ثقته. وذلك عادة ما يكون مرتبطا إما باعتراف أحد الطرفين بانتصار الآخر، وإما بالإعلان عن النتائج الرسمية الأخيرة للانتخابات «على حد قول الرئيس الروسي. وتطرق الرئيس بوتين فى إجابته حول هذا السؤال، الى النظام الانتخابى فى الولاياتالمتحدة وما يشوبه من مشكلات تتنافى فى جوهرها مع الديمقراطية، وإن خلص إلى «أن ذلك شأن داخلى يخص الأمريكيين وحدهم». لكنه ليس سرا أن الرئيس الأمريكى المنتخب، كان ولايزال يعلم أنه ليس الخيار المفضل بالنسبة ل روسيا ، وأن موسكو تظل على يقين من ان سياساته لن تبتعد كثيرا عن سياسة سلفه الديمقراطى باراك أوباما، وهو الذى أعلن عن اختيار معظم الشخصيات المحورية لإدارته الجديدة من بين رجال إدارة أوباما، المعروفين بمناوأتهم لسياسات الرئيس بوتين ، ومنهم انتونى بلينكين، الذى سبق ونعت الرئيس بوتين بأبشع الأوصاف واتهمه وإدارته بالفساد واستغلال النفوذ والثراء غير المشروع. ومع ذلك فهناك من المؤشرات ما يقول إن البداية قد تكون واعدة، على ضوء ما أعلنه بايدن من استعداده لمد فترة معاهدة الحد من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى (ستارت-3) لمدة عام آخر، إلى حين الانتهاء من المباحثات بين الجانبين، وهى المعاهدة التى سبق ووقعها سلفه أوباما مع الرئيس الروسى السابق دميترى ميدفيديف . وفى هذا الصدد ينتظر الجانب الروسى استيضاح مدى استعداد إدارة الرئيس المنتخب بايدن ، للتراجع عن شروط سلفه دونالد ترامب حول ضرورة انضمام الصين إلى هذه المعاهدة. ومن المتوقع أن تكون موافقة الجانب الأمريكى على مد المعاهدة لفترة أخري، بادرة حسن نوايا من جانب إدارة بايدن ، يمكن على أساسها البدء فى بناء جدار الثقة المفقودة، وهو ما ستكشف عنه المباحثات المرتقبة حول هذا الموضوع. أما الموضوع الثانى الذى يحتدم حوله الجدل بين الجانبين، يتلخص فيما يسمى بقضية «تسميم المعارض الروسى الكسى نافالنى»، . ويقول المراقبون فى موسكو ، إن الرئيس بوتين شخصيا ليس أقل رغبة فى استيضاح أبعاد هذا الموضوع، ومعرفة المسئول عن ارتكاب هذه «الجريمة» وهى التى ثمة من يقول إنها ارتكبت لتشويه صورة بوتين فى الساحتين الداخلية والخارجية. وهى أيضا قضية تبدو على علاقة غير مباشرة بسياسات موسكو فى الفضاء السوفيتى السابق. ومن هنا ينتظر المراقبون أيضا ما يمكن أن تكون عليه سياسات بايدن تجاه أوكرانيا، التى ارتبط بها بعلاقة تبدو أقرب إلى الوثيقة، منذ فترة ولاية سلفه باراك أوباما، التى ثمة من يقول إنها لم تكن بالتشدد الذى كانت ترومه القيادة الأوكرانية السابقة تجاه موسكو ، وهى التى أيضا امتنعت عن تزويد أوكرانيا بالأسلحة التى تريد. وتقول الشواهد إن موضوع بيلاروس والاعتراف بالرئيس ألكسندر لوكاشينكو رئيسا منتخبا، سيكونان كذلك فى صدارة الموضوعات الخلافية بين الجانبين، وما سوف يطرحه وزير الخارجية الجديد بلينكين، فى حالة إقرار ترشيحه من جانب مجلس الشيوخ الأمريكي. وكان فيدور لوكيانوف رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع والمدير التنفيذى لمنتدى فالداي، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الكرملين ، أعلن عن توقعاته باحتمالات تزايد حدة المنافسة بين الولاياتالمتحدة و روسيا فى الفضاء السوفيتى السابق ومنطقة الشرق الأوسط، مع تولى بايدن لمقاليد الحكم فى البيت الأبيض. ومع ذلك لم يتخل لوكيانوف عما سبق وأعلنه، من توقعات حول احتمالات التقارب بين موسكو وواشنطن تجاه موضوع الحد من التسلح، وتحديدا فيما يتعلق بمد فترة معاهدة «ستارت-3» التى وقعها الرئيسان السابقان الروسى ميدفيديف والأمريكى أوباما، فى براغ فى 8 ابريل 2010. وتبقى قضيتان أخريان يمكن أن تحددا ملامح سياسات بايدن مع موسكو ، الأولي: تتعلق بسياسات بايدن المرتقبة مع بلدان الاتحاد الأوروبى التى تعثرت كثيرا فى عهد سلفه ترامب، بسبب إصرار الأخير على ضرورة وقف العمل فى مشروع »التيار الشمالي-2«، الذى تعلق عليه موسكو الكثير من آمالها الاقتصادية والسياسية. والثانية وتتعلق بالموقف من إيران واحتمالات العودة عن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق السداسى الذى وقعته إدارة أوباما، فضلا عما تعرضت له البلدان من ضغوط لزيادة مساهماتها فى تمويل حلف الناتو. وذلك ما لابد أن يفضى بنا إلى موضوع العقوبات التى بدأتها إدارة أوباما، وساهم فى إعداد الكثير منها انتونى بلينكين، المرشح لمنصب وزير خارجية بايدن ، المعروف بعدائه الشخصى للرئيس بوتين . وكان المشرعون الامريكيون أعدوا قائمة بعقوبات جديدة ضد الرئيس بوتين وإدارته، وصفها السناتور الجمهورى ليندسى جريم ب «حزمة عقوبات من الجحيم»، ومنها ما يتعلق بالسندات المالية الروسية وحظر التعامل مع البنوك الحكومية الروسية، وفى مقدمتها « سبير بنك »، و»بنك التجارة الخارجية«، وإدراج روسيا ضمن قائمة البلدان التى ترعى الإرهاب، وحظر الاستثمارات الأجنبية فى قطاع الطاقة، وفرض العقوبات الشخصية ضد بوتين والشخصيات القريبة منه، والتى يقترب عددها من السبعمائة فى القائمة التى جرى إقرارها فى مارس من هذا العام. ومن اللافت ان هناك من الديمقراطيين من اعتبر هذه العقوبات المقترحة ردا على ما وصفه بوب مينيندس ب «التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى عام 2016». إضافة إلى «التدخل الروسى فى الأزمة الأوكرانية وفى سوريا». وذلك ما يجعل بعض المراقبين فى روسيا لا يتوقعون «خيرا وفيرا»، فى العلاقة المرتقبة بين إدارة بايدن و الكرملين ، وإن تظل الآمال تراود كثيرين انطلاقا من المؤشرات التى تقول برفض الإدارة الأمريكية الجديدة لأساليب الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته ترامب، تجاه كثير من القضايا المطروحة على أجندة السياسة العالمية، وما أعلن عنه بايدن حول احتمالات مد فترة معاهدة الحد من التسلح «ستارت-3»، والتراجع عن قرار الإدارة الأمريكية السابقة حول معاهدة المناخ، والتعاون مع منظمة الصحة العالمية، وانتهاج سياسات متوازنة مع بلدان الاتحاد الأوروبي . وفى الوقت الذى يلفت فيه البعض فى موسكو الأنظار حول ضرورة عدم إغفال ما قاله بايدن حول أن روسيا تظل العدو الأول فى قائمة أعداء الولاياتالمتحدة، فيما وصف الصين التى كان يضعها سلفه ترامب فى المرتبة الأولى فى هذه القائمة، بانها المنافس الأول وليس العدو الأول، يقول آخرون بضرورة مراعاة ما تفرضه متطلبات الحملات الانتخابية من تصعيد فى المواقف وحدة فى المفردات، التى سرعان ما يتراجع عنها الناخب بمجرد فوزه بموجب ما تقتضى متطلبات الحاضر والمستقبل من سياسات مغايرة تتواءم مع هذه المتطلبات. وذلك ما يدور حوله الحديث فى المنتديات السياسية والبرامج الحوارية فى القنوات الرسمية الروسية، دون تعجل مثل هذه التغييرات واحتمالات حدوثها خلال المائة يوم الأولى من ولاية بايدن ، حسبما جرت العادة لدى تقييم سياسات البيت الأبيض. نقلا عن صحيفة الأهرام