«لا حل للازمة السورية دون مشاركة موسكو، بنفس القدر الذى لا حل فيه للازمة الاوكرانية بدون دور للولايات المتحدةالأمريكية». ذلك ما كان ولا يزال يدركه كل من الكرملين والبيت الأبيض، وما يضعه الرئيسان الروسى فلاديمير بوتين، والأمريكى دونالد ترامب فى حسبانهما لدى محاولاتهما تجاوز ما يتناثر على الطريق من عثرات ومشاكل، أسفرت عن تدنى مستوى الثقة بين البلدين إلى ما دون الحدود الدنيا، وما استوجب سرعة الاتفاق حول زيارة ركس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكية الى موسكو. .جاء تيلرسون الى موسكو مثقلا بتوصيات «عدائية الصبغة» من جانب بلدان الناتو التى كان وصفها الرئيس بوتين ب «الدمى» التى تتحرك بايعاز من البيت الابيض، الى جانب وزر تصريحاته الشخصية « الصاخبة» التى وصفها ب«الوقحة» فيدور لوكيانوف رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع المعروف بعلاقته القريبة من الكرملين، وكان يمكن أن تكون سببا لرفض استقباله فى موسكو. ومع ذلك فقد حظى الوزير الامريكى بترحيب نظيره الروسى سيرجى لافروف، ليعكفا وعلى مدى ما يقرب من الخمس ساعات على بحث ودراسة ما يتناثر على الساحتين الثنائية والدولية من مشاكل تهدد امن المنطقة والعالم. ورغم ان الكرملين كان اعلن عن ان جدول اعمال الرئيس بوتين لا يتسع للقاء مع تيلرسون، فقد عاد دميترى بيسكوف الناطق الرسمى باسم الكرملين ليعلن ان الرئيس بوتين سوف يستقبل الوزير الامريكي، ما اعتبره الكثير من المراقبين فى حد ذاته «انفراجة» توحى ببصيص ضوء فى نهاية النفق. ولذا كان من الطبيعى ان يستهل بوتين حديثه مع تيلرسون ،الذى كانت تربطه به معرفة قديمة و سبق وانعم عليه ب«وسام الصداقة بين الشعوب» احد اعلى اوسمة الدولة الروسية تقديرا لتعاونه مع الشركات النفطية الروسية من موقعه كرئيس لمجلس ادارة “اكسون موبل”، بقوله «ان مستوى الثقة بين البلدين فى عهد ترامب تراجع الى ما دون المستوى الذى كان عليه ابان سنوات حكم الرئيس السابق اوباما وخاصة على المستوى العسكري». وفى معرض التعليق على نتائج مباحثات المبعوث الامريكي، يقولون فى موسكو ان تيلرسون ورغم أنه حديث عهد بالسياسة والدبلوماسية، استطاع وبما يملكه من «كاريزما» شخصية، اذابة ما تراكم من جليد نتيجة تصريحاته العدائية التى منها ما تضمن ما اعتبره البعض انذارا وتهديدا لموسكو، حين اراد وضعها بين خيارين : إما العلاقات مع واشنطن، وإما استمرارها فى تاييد ودعم الرئيس السورى بشار الاسد. ونقلت وكالة «نوفوستي» عن مصدر دبلوماسى روسى ما قاله حول ان «تيلرسون مفاوض لامع، يتمتع بقدر عال من الجاذبية، الأمر الذى يجعل سلفه جون كيرى يبدو أضعف بكثير منه». وبصدد مدى المام تيلرسون بموضوعات المفاوضات، أشار الدبلوماسى الروسى إلى ما وصفه ب «إلمام تيلرسون منقطع النظير بالقضايا التى بحثها مع الجانب الروسى فى موسكو»، ولعل ذلك ما اثار ارتياح الرئيس الامريكى ترامب الذى كان تابع مجريات مؤتمره الصحفى فى ختام مباحثاته مع لافروف وسارع بتهنئته على الاداء البارع والنتائج التى وصفها بالطيبة. على ان ذلك لم يمنع سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسية من الكشف عن بعض نواقص ضيفه الامريكى على مسمع ومرأى منه وهو الجالس الى جواره فى مؤتمرهما الصحفى المشترك. قال لافروف ان تيلرسون كان عازفا عن الرجوع الى التاريخ وما شهده الماضى القريب من احداث يجب الحيلولة دون تكرارها. قال لافروف «ان تيلرسون شخص من الزمن المعاصر، يفضل ألا يبحث فى التاريخ، ويعلى التركيز على التعامل مع القضايا الحالية. لكن من أسس عالمنا أن نتعلم دروسا من الماضي، وإلا فلن نتمكن، على الأرجح، من تحقيق النجاحات فى الوقت الراهن». اما عن التاريخ وما حفل به من دروس، فقد استعرض لافروف بعضا منه من خلال استعادة ما قام به الناتو فى البلقان، وما آل اليه مصير الرئيس اليوغوسلافى الاسبق ميلوسيفيتش، فضلا عن اخطاء الادارة الامريكية واسانيدها المكذوبة التى استعرضها وزير خارجيتها الأسبق كولين باول فى مجلس الامن، فى محاولة لتأكيد وجود اسلحة الدمار الشامل فى العراق وما اسفر عن ذلك من اعدام صدام حسين، وكذلك ما جرى فى ليبيا وما حدث لزعيمها معمر القذافي، فضلا عن تقسيم السودان. ومن هذا المنظور حرصت موسكو على طرح رؤاها وتحديد اولوياتها التى اوجزتها فى ضرورة مكافحة «داعش»، والعمل من اجل إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، بعيدا عن اللجوء إلى القوة، الى جانب شرح موقفها الثابت من مسالة مصير الاسد، ومن الاوضاع فى اليمن والعراق وليبيا وشبه الجزيرة الكورية. ورغم حدة التوتر واصطدام العلاقات بما كاد يودى بها الى شفا المواجهة، فقد استطاع الجانبان تجاوز نقطة اللاعودة، والتحول نحو تبنى الحوار سبيلا الى الحلول المنشودة لاهم ما يتناثر على الساحة من مشاكل وقضايا وعلى رأسها مكافحة الارهاب الدولى وحل الازمة السورية. اما فيما يتعلق بمصير الرئيس السورى بشار الاسد، فقد حرص الجانب الروسى على ابلاغ نظيره الامريكى بامرين اساسيين. اولهما ان واشنطن انتهكت الشرعية الدولية، وثانيهما، انها مطالبة بتقديم الادلة المادية لما تدعيه حول استخدام الاسد للاسلحة الكيماوية فى اطار تحقيق شامل من جانب لجنة دولية يجرى تشكيلها وفق معايير تراعى البعد الجغرافى من خلال منظمة حظر الاسلحة الكيميائية. ومن هنا كانت التغيرات التى ثمة من يقول انها طرأت على مواقف تيلرسون بما فى ذلك ما يتعلق بمصير الاسد. وقد اشار تيلرسون بنفسه الى بعض هذه التغيرات حين قال فى المؤتمر الصحفى المشترك مع نظيره الروسى لافروف ان «تنحى الرئيس السورى بشار الأسد من منصبه، يجب أن يكون منظماً. نحن نعتقد أنه من المهم جداً، أن يتم رحيل الأسد بشكل هيكلي، وبطريقة منظمة، لكى تمثل جميع الطوائف على طاولة المفاوضات». وكان لافروف اوجز مواقف بلاده من هذه المسألة بقوله «ان روسيا لا تراهن على شخصية محددة فى سوريا، بما فى ذلك الرئيس الأسد، السوريون يجب أن يتفقوا فيما بينهم». واضاف ان روسيا تعارض «الاختبارات» الخاصة بالإطاحة بالأسد... لقد شاهدناها فى الماضى ونعلم جيدا إلى ماذا تؤدى. ولهذا السبب لا نراهن على أى شخصية فى سوريا، إن كان الرئيس الأسد أو أحد آخر». وأكد الوزير الروسى أن إسقاط النظام فى دمشق قد يؤدى إلى خسارة الحرب مع إرهابيى «داعش». وكان بيسكوف الناطق الرسمى باسم الكرملين اكد من جانبه ايضا «أن بشار الأسد هو الرئيس السورى الشرعي، والجيش الذى يقوده بوصفه القائد الأعلى، يشارك بشكل مباشر فى مكافحة الإرهابيين الدوليين الذين يسيطرون فى الوقت الحالى على مساحة كبيرة فى سوريا، وانه يعتبر دعوات واشنطن إلى تخلى موسكو عن دعم الرئيس السورى أمرا غير ممكن على الإطلاق»، وهو تكرار لما سبق وأن قاله بوتين فى اكثر من مناسبة، حول ان الاسد الجيش السورى هما الجهتان اللتان يمكن الاعتماد عليهما لدى مكافحة الارهاب فى سوريا. وحول الموقف من تورط الحكومة السورية فى استخدام الاسلحة الكيماوية، قال لافروف ان موسكو ترى استعدادا لدى واشنطن لدعم ما تطرحه حول ضرورة إجراء تحقيق موضوعى فى قضية الاستخدام «المزعوم» للاسلحة الكيماوية فى «خان شيخون». وأعلن أن موسكو سوف تستغل نفوذها لدى السلطات السورية من اجل حثها على التعاون الكامل مع منظمة حظر الاسلحة الكيماوية. ويتوقف المراقبون ايضا فى معرض سردهما لما تحقق خلال هذه الزيارة من ايجابيات، عند اتفاق الوزيرين حول تعيين الية مشتركة تتمثل فى اختيار مبعوثين خاصين ثمة من يرى ان يكونا على اتصال دائم بالرئيسين بوتين وترامب، للتنسيق بين وزارتى خارجية البلدين لمناقشة العوامل السلبية التى تراكمت فى علاقاتها خلال السنوات الماضية وسنوات حكم إدارة أوباما على وجه الخصوص.واذا اضفنا الى ذلك ما اعلنه الجانبان حول اتفاقهما بشأن اولوية التسوية السياسية للأزمة السورية، والمساهمة فى حل النزاعات فى ليبيا واليمن، الى جانب ضرورة تنفيذ اتفاقيات مينسك حول أوكرانيا، وانهما يؤيدان التنفيذ الحرفى لقرارات مجلس الأمن الدولى الخاصة بشبه الجزيرة الكورية، فاننا نكون امام ما يشبه “الانفراجة”، التى لم يكن هناك من توقع ان تبلغ حد “الاختراق”. وكان الرئيس بوتين كشف ايضا عن استعداد بلاده للعودة الى مذكرة التنسيق المتبادل بين البلدين فى الاجواء السورية التى كانت موسكو اعلنت عن الخروج منها فى اعقاب القصف الامريكى لقاعدة “الشعيرات”. ورغما عما يشوب تقديرات الاوساط الرسمية فى موسكو من تفاؤل نسبى تجاه نتائج اللقاء، فقد اشار بيسكوف الناطق الرسمى باسم الكرملين الى أنه من السابق لأوانه الحديث عن أية حلحلة فى العلاقات بين موسكووواشنطن، معربا عن امله فى ان ينقل تيلرسون رؤية الرئيس بوتين وتحليله للاوضاع الراهنة الى دونالد ترامب.