د. محمد عثمان الخشت من سمات الخطاب الدينى البشرى التقليدى النظر إلى الشهوات بوصفها أمرا مرذولا خسيسا، وعلى رأس هذه الشهوات النساء! يقول النسفى فى تفسيره (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، عن (حُبُّ الشهوات) المذكور فى الآية الكريمة: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران: 14). يقول: «الشهوة توقان النفس إلى الشيء، وجعل الأعيان التى ذكرها شهوات مبالغة فى كونها مشتهاة، أو كأنه أراد تخسيسها بتسميتها شهوات؛ إذ الشهوة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية (مِّنَ النساء)...» (1/ 240). وهنا لابد من طرح عدة إشكاليات، كالآتي: 1- إذا كانت الشهوة حسب تعريف النسفى على النحو الآتي: «الشهوة توقان النفس إلى الشيء»، فهل توقان النفس إلى الشيء خسيس مسترذل مذموم فى حد ذاته، أم حسب طبيعة وسياق هذا الشيء وطريقة التوقان إليه، فتوقان النفس إلى الزوجة أمر محبوب، وتوقان النفس إلى غير الزوجة من غير انتهاج الطرق المشروعة أمر خاطئ فى الشرع وفى الأعراف العامة؟ 2- ألم يفطر الله الإنسان على توقان النفس إلى الأشياء المذكورة والتى هى من نعم الله التى أنعم بها عليه، (النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ)؟ 3 - من أين جاء النسفى بأنها مذمومة فى حد ذاتها؟ هل يوجد فى الآية الكريمة ما يدل على ذلك؟ ربما يكون مرجعه فى ذلك (زُين للناس)، لكن إذا فسرنا القرآن بالقرآن، نجد أن ألفاظ الزينة والتزيين ويزين والألفاظ ذات العلاقة، ليست مذمومة فى حد ذاتها؛ وليست واردة فى القرآن فى سياقات الذم والشر بإطلاق، بل تختلف من سياق إلى آخر؛ حيث وردت فى مواضع كثيرة فى سياق إيجابى مندوب إليه أو فى سياق الأمر الإلهي. ومن السياقات الإيجابية على سبيل المثال: (يَا بَنِى آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد...ٍ) (الأعراف، 31). فالزينة قد تكون فى الإطار الصحيح، وأيضا المتاع قد يكون فى الإطار الصحيح، لكنهما أيضا قد يكونان فى الإطار غير الصحيح، وهذا ما توضحه بقية الآية نفسها والآية التالية مباشرة، (... كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 3133). ولذا فالزينة والتزين والتزيين ليست شرا فى حد ذاتها، وليس لها طبيعة واحدة، ولا تستخدم أيضا بطريقة واحدة، فهى قابلة لأن تكون خيرا أو تكون شرا حسب توظيف الإنسان لها، ولذا فهى اختبار وابتلاء، (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الكهف: 7). 4- ذكرت الآية الكريمة أن تلك الأشياء، ومنها النساء، (مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، والسؤال هنا هل متاع الحياة الدنيا كله من المحرمات فى حد ذاته، أم أنه من نعم الله تعالى على الإنسان، وقد يستخدمها بشكل خاطئ وقد يستخدمها بشكل صحيح؟ إن المتاع فى القرآن الكريم جاء فى سياقات متنوعة، منها السلبى ومنها الإيجابي، السلبى مثل : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (يونس: 23)، والإيجابى مثل: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُ...) (هود: 3)، (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا. وَحَدَائِقَ غُلْبًا. وَفَاكِهَةً وَأَبًّا. مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (عبس: 24 32)، (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ..) (المائدة: 96). ولا شك أن هذا وغيره متاع دنيوى امتن الله به على الإنسان. فليس متاع الدنيا كله مذموما. يؤكد ذلك أن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم يستمتع على زهده الحقيقى بجوانب من متع الحياة؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم:« أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس مني«(حديث صحيح رواه البخارى ومسلم). 5 - فيما يتعلق ببقية الآية الكريمة: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)، فإنها لا تتعارض مع ما تم ذكره أعلاه؛ لأنه فى كل الأحوال يوجد عند الله تعالى المزيد والمزيد، والعبرة بالنهاية الطيبة والعبرة بالمآب الحسن. وفى كل الأحول فإن القرآن الكريم فى بعض السياقات لا يتنكر للشهوات ولا للمتاع ولا لطريقة التعامل مع المرأة مادامت هى فى الإطار الصحيح، وإن كان يعد أن ما عند الله أبقى وخيرا من ذلك، وهذا يفيد الأفضلية لكنه لا يعد المفضول شرا بإطلاق. وهذا هو المعنى الصريح للآية التالية مباشرة: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران: 15). ومن هنا فمن الفهم الخاطئ اعتبار النساء دوما من تزيين الشيطان. وعلاوة على ذلك فإن المرأة ليست من مباهج الدنيا فقط، بل من مباهج الآخرة أيضا. 6 - إذا كان النسفى يفهم من الآية الكريمة أنها فى إطار الذم، فهل حب البنين المذكور عقب ذكر النساء مذموم هو أيضا؟ أم هو محبوب؟ أم هل سوف نكيل بمكيالين: كيل للنساء وكيل للبنين؟ وتأسيسا على ذلك، فإن المرأة إذا كانت من الشهوات التى تتوق لها النفس، حسب تعريف النسفى للشهوات، فإن هذا لا يجعلها فى موضع الشهوات المرذولة. ومن الخطأ ما قاله النسفى نقلا عن الحكماء عندما قال:«كأنه أراد تخسيسها بتسميتها شهوات؛ إذ الشهوة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية» «مدارك التنزيل وحقائق التأويل، 1/ 240». ولم يذكر النسفى مَنْ هم هؤلاء الحكماء، وهل كانت لديه وسيلة للتحقق من أن جميع الحكماء قالوا ذلك؟ طبعا لا؛ لأن الحصر غير ممكن فى زمنه. لكن يبدو أن فرقة الماتريدية التى تتقاطع مع الأشعرية فى معظم القضايا، غالبا ما تصدر أحكاما عامة دون تمييز ودون حصر للمقدمات ودون يقين بكل المفردات الداخلة تحت الحكم العام. وما هذا إلا لأن المعين الذى تنهل منه الماتريدية هو المعين نفسه الذى تنهل منه الأشعرية.