د. محمد عثمان الخشت من أهم ضوابط تفسير الوحى الكريم هو تفسير الكتاب بالكتاب، أى تفسير القرآن بالقرآن، فالقرآن كتاب مبين يوضح بعضه بعضا. وأيضا من أهم الضوابط: تفسير القرآن بالسنة المتواترة والصحيحة، فالقرآن نفسه قد جعل من وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم التبيين، «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل: 44). ولتفسير القرآن بالسنة شروط واعتبارات متعددة. ومن أسف، فإن هذه الضوابط يتم التغاضى عنها فى كثير من الأحيان، وعلى سبيل المثال يتم غالبا تجاهلها فى تفسير سبب وطبيعة كون المرأة من الشهوات فى إطار الرؤية الأسطورية للمرأة، كما يتم اعتبار الشهوات شرا مطلقا أيضا فى إطار الرؤية الأسطورية للشهوات. وأنا أتصور أن تلك الشهوات ليست فى حد ذاتها شرا مطلقا، وليست فى حد ذاتها خيرا مطلقا، بل هى فى الوحى الكريم نعمة إلهية، مثل سائر النعم، يمكن توظيفها فى الخير ويمكن توظيفها فى الشر. وأيضا فى السنة الصحيحة، قال صلى الله عليه وسلم: «حُبب إلى من دنياكم: النساء، والطيب، وجعلت قرة عينى فى الصلاة» (رواه أحمد والنسائى والبيهقى والطبرانى وأبو يعلى وعبد الرزاق والحاكم وغيرهم وهو صحيح). والشهوات ليس المقصود بها شهوة المرأة فقط، بل شهوات كثيرة مثل البنين وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، وأيضا شهوة المعرفة وشهوة الطعام والشراب واللعب واللهو ...إلى آخره. وأيضا ليست شهوة النساء محصورة فى الرغبة الجنسية منفردة، بل أيضا لإنجاب الذرية وللسكينة والصحبة الطيبة ومشاركة هموم الحياة. ومن الواضح أن أيا من هذه الشهوات ليس شرا فى ذاتها، فحب الذرية ليس شرا فى ذاته، وحب الخيل المسومة والذهب والفضة ليس شرا فى ذاته. وبالمثل ليست الشهوات من النساء شرا فى ذاتها، بل العبرة تكمن فى كيفية التعامل معها وتوظيفها؛ فالمرأة الصالحة نعمة، لكن المرأة الفاسدة نقمة. والجنس فى الإطار المشروع نعمة، سواء لبناء الأسرة ومواصلة الحياة عبر الأجيال واستمرار البشرية أو حتى لمجرد الاستمتاع والسكينة، فهى متع مشروعة، بل نعم إلهية. لكن الجنس المنحرف فى أطر غير شرعية هو شر واتباع للشهوات دون ضوابط، ويترتب عليه مشاكل وأضرار فردية واجتماعية عديدة. وقل مثل ذلك فى بقية الشهوات التى ذكرتها الآية الكريمة، وغيرها من الشهوات الأخرى. وعلى فكرة، فإن أغلب المخلوقات لها وجهان: وجه للشر، ووجه للخير. وأغلب النعم لها وجهان: وجه للشر، ووجه للخير. وعلى سبيل المثال، فإن النار نعمة إلهية، لكن لها وجهان: وجه للشر، ووجه للخير. فإذا استخدمت النار من أجل الحرق والتدمير والإهلاك فهى شر، وإذا استخدمتها من أجل التدفئة أو طهى الطعام أو الصناعة فهى خير. وقل مثل ذلك فى أى شيء. فى هذا الإطار يجب فهم الآية الكريمة: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ » (آل عمران: 14). وقد اختلف المفسرون فى تحديد مَنْ هو المزين: هل هو الله تعالى أم الشيطان؟ قال النسفى :«المزين هو الله عند الجمهور للابتلاء كقوله «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زينة لها لنبلوهم»، دليله قراءة مجاهد زَين للناس على تسمية الفاعل، وعن الحسن: الشيطان» (مدارك التنزيل وحقائق التأويل 1/ 240). وفى تصورى أن هذا تفسير يعتمد على طريقة أرسطو فى التفكير «إما ... أو ....» ، «إما الله أو الشيطان»، وهى طريقة أثبتت خطأها فى كثير من الأحيان؛ لأنها تعتمد على أنه لا يوجد احتمال ثالث، وهذا مبدأ أثبت فشله فى كثير من القضايا، ويسمى «مبدأ الثالث المرفوع» الذى يعتمد عليه المنطق الصورى القديم فى التفكير، والذى يفصل العالم إلى عالمين « أبيض أو أسود»، ويستخدم فقط قيمتين «صادق أو كاذب»، فالقضية حسب هذا المنطق القاصر تستخدم قيمتين تختار بينهما. ويتجاهل هذا المنطق القاصر أن من المحتمل وجود قيمة صدق ثالثة أو رابعة أو خامسة ...إلخ، على ما هو معروف فى المنطق متعدد القيم Many- Valued Logic. أوضح ذلك أكثر، فأقول إن النسفى وغيره اختلفوا فى تحديد مَنْ هو المزين: هل هو الله تعالى أم الشيطان؟ وكان الاختيار بين المختلفين: إما أن الله هو المزين، أو أن الشيطان هو المزين، ولا يوجد احتمال ثالث أو رابع أو خامس. وإذا رجعنا للواقع المعاش نجد أن الله هو الذى خلق إمكانية ذلك فى الإنسان، وإمكانية ذلك فى تلك الشهوات المذكورة، والممارسة الواقعية تبين أن وسوسة الشيطان تدخل على الخط، فتزينها بطريقة خطأ لتكون وسائل وأدوات للشر، وقد يأتى التزيين من إنسان آخر، وقد يأتى من المرأة نفسها التى تزين للرجل نفسها، وقد يأتى من الإنسان نفسه لأنه يتمادى فى التزيين لنفسه. وقد ... وقد ...، طبعا مع فوارق فى طبيعة التزيين. وفى إطار (المرأة)، وهى موضع هذه المقالات، نجد أن التزيين من الله لا يكون إلا فى الخير من أجل الحب والذرية وبناء الأسرة كوحدة أصيلة يتكون منها المجتمع واستمرار الجنس البشري، لكن فى حالة التزيين من الشيطان فإنه لا يكون إلا من أجل اتباع الشهوات فى حد ذاتها ومن أجل الشر. وفى حالة تزيين الإنسان للإنسان، فإنه قد يكون خيرا وقد يكون شرا حسب الإطار والسياق والغاية من عملية التزيين. ويمكن أن تتوسع فى ذلك بالمثل على الرجال، فهم محل أيضا للتزيين للمرأة، وهم أيضا من الشهوات المزينة للنساء، وليس هذا شرا فى حد ذاته ولا خيرا فى حد ذاته، والأمر يتوقف على طبيعية إشباع هذه الشهوات، هل هو فى الإطار المشروع والسياق الصحيح ومن أجل غاية شريفة، أم هو فى الإطار غير المشروع والسياق الخطأ ومن أجل غاية فاسدة؟ وفى المنطق متعدد القيم، يمكن أن يتغير الشيء من الصدق إلى الكذب، ومن الكذب إلى الصدق حسب التغيرات الحادثة فى السياق، فالجنس قد يكون خيرا فى السياق المشروع، والجنس قد يكون شرا فى السياق غير المشروع. ومن هنا فإن النساء والرجال كمحل للشهوات لبعضهما البعض، ليس شرا فى ذاته وليس خيرا فى ذاته، والمسألة برمتها تتوقف على السياق والغاية والمشروعية. وتأسيسا على ذلك، فليس من الصواب اعتبار ذكر النساء من الشهوات فى هذه الآية الكريمة، أمرا مستهجنا منهيا عنه فى إطار الفهم الأسطورى الذى يفهم السياق فى ضوء الحديث الذى يوجد بإسناده جهالة، والمنسوب خطأ إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: «النساء حبائل الشيطان ولولا هذه الشهوة لما كان للنساء سلطنة على الرجال». كما أن الله تعالى ليس هو المزين وحده بإطلاق، وليس الشيطان هو المزين وحده بإطلاق، ولا يجب علينا أن نختار بين البديلين كما أراد النسفى الأشعرى وغيره، بل هناك عدة بدائل كلها تصح حسب السياق المقصود؛ فقد يكون المزين هو الله تعالى، وقد يكون الشيطان هو المزين، وقد يكون هناك احتمال ثالث أن المزين هو الإنسان، سواء لنفسه أو للأخرين. ومن هنا تبطل طريقة التفكير الثنائية القائمة على واحدية الصواب فى الخطاب الدينى البشرى التقليدي، وينفتح المجال لطريقة تفكير مختلفة تعتمد على المنطق متعدد القيم فى الخطاب الدينى الجديد بالعودة إلى الوحى الكريم والواقع المعاش والعقل النقدي.