د. محمد السعيد إدريس مع مرور الأيام بطيئة من الآن وحتى 20 يناير الحالى موعد الانتهاء الرسمى لعهد الرئيس ترامب يعيش العالم حالة استنفار غير مسبوقة تحسباً لوقوع أحداث كارثية يأمل ترامب أن يجبر بها من يعتبرهم أعداءه داخل الولاياتالمتحدة وخارجها على دفع أثمانها وتحمل تبعاتها. فكل من عرفوا الرجل يدركون أنه لن يرحل بسهولة خصوصاً أنه يشعر بالغبن والفشل على المستويين الداخلى والخارجى، ولذلك يعتقدون أنه، بتركيبته النفسية المعروفة عنه، لن يغادر البيت الأبيض دون انتقام، لكن يبقى السؤال أين ومتى وكيف سيكون هذا الانتقام؟ فشل ترامب داخلياً فى أن يحتوى جائحة فيروس كورونا، لكن الأهم أنه فشل فى أن يجدد لنفسه ولاية حكم ثانية. وقد لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إنه بميوله «الشعبوية» المعادية للديمقراطية كان لا يريد فقط التجديد لولاية ثانية بل كان خياله يداعبه فى أن يفعل ما فعله كل من الرئيس الروسى والرئيس الصينى بالتمديد لولايات ممتدة فى الحكم، وليعيد ترتيب الأوضاع الداخلية الأمريكية، ليفرض نفسه «رقماً صعباً» فى الحياة السياسية الأمريكية. أما على المستوى الخارجى، فإن ترامب الذى أعطى لدولة الاحتلال الإسرائيلى الكثير من العطايا والهبات حيث نقل سفارة بلاده إلى القدس واعترف بالمدينة موحدة وعاصمة أبدية للكيان الإسرائيلى، واعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، لكنه فشل فى فرض مشروعه لتصفية القضية الفلسطينية الذى حمل اسم خطته للسلام. فقد سقطت، وسقط معها مشروع ترامب الثانى وهو احتواء إيران ومشروعها النووى وطموحاتها الإقليمية. وها هو يرحل، فى حين بقيت إيران صامدة وتكاد تكون أنهت التزاماتها بالاتفاق النووى وعادت مجدداً إلى مرحلة ما قبل توقيع الاتفاق، فى الوقت الذى ُأجبرت فيه كل من الولاياتالمتحدة وإسرائيل ودول أخرى صديقة على التأهب لمواجهة خطر انتقام إيرانى يرون أنه حتمى لاغتيال الجنرال قاسم سليمانى. هذا الفشل المدوى لم يعد يترك لترامب أى فرصة سوى الانتقام حيث بدأ الحديث يتردد منذ أيام عن خطر «كابوس انتقامات ترامب»، التى تتجاذب بين مسارين؛ أولهما الانتقام داخل الولاياتالمتحدة بتفجير الأوضاع السياسية والأمنية لعرقلة بدء ولاية جو بايدن سلمياً، وثانيهما شن الحرب على إيران سواء عبر «هجوم انتقائى» على أهداف محددة أهمها بالطبع المنشآت النووية، أو عبر تكرار مسلسل الاغتيالات إما لقيادات إيرانية أو لزعامات موالية لطهران، والمساران يهدفان إلى إرباك كل حسابات جو بايدن، وإلى طمأنة حلفاء ترامب فى المنطقة. المسار الأول يرجح أن تكون بدايته غداً الأربعاء السادس من يناير موعد اجتماع الكونجرس بمجلسيه للتصويت على قرار «المجمع الانتخابى» بفوز جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، لذلك فإن المراقبين أعطوا هذا المسار اسم «مسار السادس من يناير» حيث يخطط ترامب لدفع عدد غير قليل من النواب والشيوخ الجمهوريين للتصويت ب «لا» على قرار «المجمع الانتخابى»، ورفض إعلان جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة. هناك الآن أكثر من 140 من النواب الأمريكيين مدعومين بعدد من الشيوخ، حسب تقديرات «سى إن إن» مستعدين لهذا الرفض، ولأن ترامب يعرف مقدماً أن هذا «التكتيك» ليس إلا مجرد مماحكة للإساءة إلى المناسبة، وتأجيل إعلان فوز بايدن لعدة ساعات فقط، نظراً لأن الديمقراطيين يتمتعون بأغلبية مجلس النواب، وأن أكثر من نصف الجمهوريين باتوا منحازين للقبول بفوز بايدن ورافضين لتعنت ترامب، فإنه تجاوز حدود خطة الإرباك داخل الكونجرس واتجه إلى التحريض الشعبى لأنصاره غداً أيضاً لرفض فوز بايدن وتأكيد مقولة «سرقة الانتخابات». فقد دعا ترامب أنصاره إلى الحشد والتظاهر فى تمام الحادية عشرة من صباح الغد، واختار مدينة نيويورك لتكون مسرحاً لهذا التظاهر. السؤال المهم هنا هو ماذا بعد تظاهرة نيويورك المحتملة؟ التوقعات ترى أنها يمكن أن تكون مجرد بداية لتظاهرات ممتدة زمنياً ومكانياً فى معظم أنحاء الولاياتالمتحدة اعتماداً على أن 74 مليون ناخب اختاروا ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ويرفضون رئاسة جو بايدن . التوقعات تتفاقم فى هذا الاتجاه، وهناك من يتحسبون لاحتمال لجوء ترامب، ضمن تعميم مسلسل التظاهرات وعدم الاستقرار، إلى الأخذ بخيار فرض «الأحكام العرفية». من يتخوفون من هذا الاحتمال لديهم معلومات تقول إن ترامب سبق أن اجتمع مع معاونيه لمناقشة فرض أحكام عرفية ونشر الجيش لإعادة الانتخابات. هنا بالتحديد سوف تتوجه الانظار نحو الجيش الأمريكى وموقفه ولمن سينحاز هل إلى دعم خيار فرض الأحكام العرفية أم لإحباط هذا المسعى؟ السؤال مهم بقدر خطورة نتائجه. أما مسار الانتقام فى الخارج ضد إيران، فهو قد يكون خياراً بديلاً، وقد يكون خياراً ملازماً وداعماً للمسار الأول لتأكيد أن ترامب لن يرحل بهدوء. متابعة التصعيد الأمريكى الإيرانى حالياً تؤكد أنه قد وصل إلى الذروة. الأمريكيون يكثفون من جاهزيتهم العسكرية والدفع بأرقى وأقوى أسلحتهم، والإيرانيون باتوا على أهبة الاستعداد لتلقى الضربة الأولى وتحويل ما يمكن أن يكون «ضربات انتقائية» أمريكية إلى حرب موسعة تشمل القوات والمصالح الأمريكية ودولة الكيان الإسرائيلى وتمتد إلى الدول التى يمكن أن تنطلق منها عمليات عسكرية أمريكية. من المؤكد أن إيران قررت «التأجيل المؤقت» للانتقام من اغتيال جنرالها قاسم سليمانى، وهكذا مرت الساعات الأخيرة بسلام مع مرور الذكرى الأولى لاغتيال هذا الجنرال، واكتفى أنصار طهران فى بغداد بالتظاهر فى ساحة التحرير أمس الأول الأحد لإحياء الذكرى فقط والحديث عن «الثأر المؤجل» والالتزام بعدم اقتحام السفارة الأمريكية، لكن إيران تحذر من تحفيز إسرائيلى لخلق ذرائع ومبررات للحرب ضدها، وقدمت إيران رسمياً شكوى إلى الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس الدورة الحالية لمجلس الأمن تحذر فيها من التربص الأمريكى بها والتهيؤ للعدوان. هل هذا يكفى لمنع الحرب؟ ربما تأتى الإجابة من نتائج «سيناريو السادس من يناير» فى كل من واشنطنونيويورك لنعرف أين سيستقر انتقام ترامب.