د. محمد عزالعرب تصاعد ملمح "التسييس" الخاص بعمليات تدفق أو عرقلة وصول اللقاحات القادمة من شركات دولية، أمريكية وألمانية وصينية وروسية، لمواجهة فيروس كوفيد-19 في تفاعلات إقليم الشرق الأوسط، خلال الفترة الأخيرة، في ظل منحنى وبائي متصاعد، بسبب تخفيف القيود وفتح المؤسسات والأماكن العامة، على نحو ما عكسته أبعاد أربعة رئيسية. دبلوماسية اللقاح. يرتبط البعد الأول بتعزيز العلاقات الإستراتيجية مع دول الإقليم الرئيسية؛ فاللقاحات التي أعلنت عنها شركات الأدوية العالمية وصلت إلى بعض دول الإقليم، التي تؤسس علاقات وثيقة مع الدول التي تعمل بها تلك الشركات، مثل "فايزر" و"مودرنا" و"سينوفارم" و"سانوفي". ولا ينفصل ذلك دون شك عن التنافس الجيو-سياسي بين الولاياتالمتحدة والصين وروسيا على إنتاج لقاح كوفيد-19 في خضم سباق الصدارة المستمر بينها، إذ بات يستخدم اللقاح كأداة دبلوماسية وعلمية قوية، وهو ما يفسر الإسراع بشأن الانتهاء من المرحلة الثالثة لاختباره، رغبة في إنتاج كميات أكبر منه وبيعها في الأسواق الدولية. وقد نجحت بعض دول الإقليم في إبرام تعاقدات مع شركات الأدوية للحصول على حصتها من اللقاحات، مثل مصر والإمارات والسعودية والكويت والبحرين والأردن وإسرائيل، على نحو يرتبط بعلاقاتها الوثيقة مع الدول التي تنتمي إليها تلك الشركات. مصر هي أول دولة في أفريقيا تحصل على اللقاح المنتج من شركة "سينوفارم" الصينية، وثاني دولة عربية بعد الإمارات، وهو ما يتوازى مع إعلان المدير العام للصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة كيريلد ميترييف، في 2 ديسمبر الجاري، عن إمكانية البدء في إنتاج لقاح "سبوتنيك V" الروسي المضاد للفيروس في مصر، بما يعكس محورية العلاقات الثنائية بين الطرفين. أثر العقوبات يتصل البعد الثاني بمحاولات إيران إلقاء المسئولية على العقوبات الأمريكية في عرقلة وصول اللقاحات إليها، لأنها غير قادرة على استخدام نظام دفع يهدف إلى ضمان حصولها على الجرعات، لاسيما في ظل تطبيق إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سياسة الضغوط القصوى عليها، وإن كان هناك احتمال بتغير هذه السياسة مع وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض في 20 يناير القادم، شريطة أن تُثمر الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة في يونيو 2021 عن رئيس يبدي توجهات انفتاحية تجاه واشنطن. وهنا، قال الرئيس الإيراني حسن روحاني، في 9 ديسمبر الجاري، إن "العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تزيد من صعوبة استيراد لقاحات فيروس كورونا". ومع ذلك، قال روحاني إن "حكومة بلاده سوف تجد طريقة لشراء اللقاحات في الوقت المناسب وإتاحتها للإيرانيين". ويتوافق ذلك مع ما قاله عبدالناصر همتي، محافظ البنك المركزي الإيراني، في صفحته على "انستجرام" قبل ذلك بيومين، من أن "العقوبات المصرفية الأمريكية تمنع طهران فعلياً من استخدام منشأة COVAX"، وهى مؤسسة غير ربحية تهدف إلى إيصال اللقاح إلى الدول النامية والفقيرة. وأكد، في 16 من الشهر نفسه، أن "المشكلة الوحيدة التي تواجهنا بشأن لقاح كورونا هي أن المصارف لا تقوم بتحويل الأموال إلا بترخيص من الولاياتالمتحدةالأمريكية". لكن تصريحات همتي جاءت متناقضة مع ما أشار إليه ناصر رياحي، رئيس اتحاد مستوردي الأدوية، الذي قال إنه "يتم استيراد احتياجات البلاد من الأدوية بطرق مختلفة حتى من شركات الأدوية الأوروبية والصينية والروسية"، مضيفاً أن "بعض الفروع الأوروبية لشركات في الولاياتالمتحدةالأمريكية مستعدة للقيام بأعمال تجارية مع أطراف إيرانية". جغرافيا الانكشاف في حين ينصرف البعد الثالث إلى الأوضاع الداخلية في دول الصراعات المسلحة العربية، حيث تواجه تلك الدول صعوبات في توفير لقاحات مواجهة كوفيد-19، مثلما هو الوضع في ليبيا واليمن وسوريا، لاسيما في ظل انهيار المنظومة الصحية وارتفاع تكلفة العلاج من الفيروس، والانشغال بمجريات الصراع الميداني، فضلاً عن صعوبة الوصول إلى أماكن اللاجئين أو مخيمات النازحين. غير أن بعض الدول، مثل سوريا، يمكنها تدبير استيراد اللقاح، على الأرجح، عبر أحد الحلفاء الدوليين الداعمين لها على غرار روسيا والصين، لاسيما أن الأولى تتهم الولاياتالمتحدة بفرض نظام عقوبات قاسٍ على سوريا، بما يؤدي إلى خنقها اقتصادياً عبر "قانون قيصر" رغم وجود جائحة تستدعي التفكير أيضاً في الاعتبارات الإنسانية. في هذا السياق، قال الرئيس السوري بشار الأسد، في حوار مع وكالة نوفيستي في 7 أكتوبر الماضي، رداً على سؤال حول ما إذا كان يرغب في التطعيم شخصياً بلقاح فيروس كورونا الروسي: "بالطبع في الظروف الحالية يرغب الجميع في أخذ اللقاح ضد هذا الفيروس الخطير"، مضيفاً: "سوريا ستطلب توريد اللقاح الروسي ضد كوفيد-19، وستتفاوض مع موسكو بشأن هذه المسألة، وسيتم تحديد الكمية لاحقاً، على حد علمي هذا اللقاح غير متوفر بعد في السوق الدولية، لكننا سنناقش مع السلطات الروسية متى سيكون بإمكانه دخول سوريا". فجوة الإمداد أما البعد الرابع فيتمثل في ما تشير إليه دول عديدة بشأن غياب العدالة التوزيعية للقاحات، وهو ما يرتبط بالفجوة القائمة بين الدول المتقدمة والنامية ومنها بعض دول الشرق الأوسط، ووفقاً لتلك الرؤية، فإن الدول المتقدمة المنتجة للقاح هي التي ستستفيد أولاً، في حين ستحصل النامية فيما بعد عليه من خلال مشاريع مدعومة من منظمة الصحة العالمية. وقد وقعت 189 دولة على مبادرة "كوفاكس" -المشتركة بين منظمة الصحة العالمة وتحالف اللقاحات غافي والتحالف من أجل ابتكارات الاستعداد للأوبئة- التي تهدف إلى توفير ملياري جرعة من اللقاح (أو اللقاحات المعتمدة) تكفي لتحصين 20 في المائة من سكان الدول المشاركة قبل نهاية عام 2021. فضلاً عن ذلك، فإن الموارد المالية المحدودة والظروف الاقتصادية الضاغطة على عدد من الدول، سوف تؤثر على قدرتها على استيراد اللقاحات المضادة لكوفيد-19، وهو ما ينطبق على بعض دول شمال أفريقيا، إلى جانب السلطة الفلسطينية التي تعاني مأزقاً مالياً يعوقها عن توفير تلك اللقاحات. من هنا، يمكن القول في النهاية إن اللقاحات التي بدأت شركات دولية عديدة في الإعلان عنها لمواجهة كوفيد- 19 سوف تتحول، تدريجياً، إلى متغير أساسي له دور في تحديد اتجاهات التفاعلات التي تجري على الساحة الإقليمية، في ظل حالة السيولة الشديدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط خلال المرحلة الحالية.