فى شهور السجن المنزلى بسبب كورونا ، وقد طالت حيث لا خروج ولا أصدقاء ولا ناس ولا شارع، لا يبقى أمام الإنسان غير أن يتأمل ويفكر ويتساءل وربما وجد صديقا هنا أو هناك يبثه شيئا من همومه أو حيرته عن أسباب ما نحن فيه حول هذه الملايين التى أصيبت بهذه الكارثة وهؤلاء الذين ماتوا فى كل بلاد الدنيا ومنهم الأطفال والشباب والشيوخ.. إن كورونا من أهم وأخطر الأحداث التى عاشها إنسان العصر الحديث وهى ليست بالحدث العابر، ولكن التاريخ سوف يتوقف عندها طويلا مثل كل الكوارث التى مرت بها البشرية من قبل، كان السؤال الذى توقفت عنده كثيراً وربما شغل الملايين من البشر فى كل ربوع العالم: هل كان فيروس كورونا جريمة دبرها وأنتجها أحد مراكز الأبحاث فى مدينة ووهان الصينية - كما يدعى الغرب - أم أن الفيروس عقاب إلهى للبشر حين دمروا كل شيء بالحروب والقتل وإهدار حقوق الناس ومواكب الظلم التى أكل فيها القوى الضعيف وتسلط على البشرية أقوام لا يخافون الله ولا يحفظون ما نزل عليهم من الأديان والأنبياء والرسل حتى ظنوا أنهم قادرون عليها فدمرناها تدميرا؟!.. إن هذه التساؤلات مطروحة الآن بين العلماء والمفكرين والمبدعين ورجال الدين فى كل مكان والحقيقة أنها تجاوزت كل حدود المعرفة «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا». لقد توقفت حدود المعرفة والأبحاث عند العلماء من كل أجناس الأرض ورغم التقدم الرهيب فى الأبحاث العلمية وتكنولوجيا العصر فمازال العلم حائراً أمام ملايين البشر الذين سقطوا ضحايا أمام هذه الكارثة، إن آخر ما وصل إليه العلم حتى الآن أن يجد مصلاً يوقف هذا الخطر الرهيب أمام عجز العلم رغم كل مظاهر التقدم وحيرة الإنسان.. أمام هذا الخطر الغامض عاد الإنسان يفكر فى الخالق سبحانه وتعالى ويتذكر «قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى» عاد البشر يتذكرون إلها شيد هذا الكون وأنبياء أضاءوا الحياة بالهدى والنور وكتبا سماوية كانت طريقا للرحمة وربما وجد الإنسان نفسه أمام حقائق كونية تغافل عنها وضل الطريق إليها وتكبر وتجبر وافترى وجاءت قدرة الخالق لكى تؤكد أن فى السماء الها وأن كورونا كان مجرد رسالة بسيطة أرسلها خالق الأرض والسماء والبشر بأنه قادر على كل شيء يحيى ويميت «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ».. فى أحيان كثيرة يجد الإنسان نفسه فى حيرة من أمره وكان الصوفية يبحثون دائما عن شيء يسمى اليقين أو التسليم.. وهو يعنى أن يترك الإنسان كل شيء لمن صنعه، لأنه أدرى به وهذا الكون بما فيه صنعه الله سبحانه وتعالى أرضا وزماناً وبشراً، إنه على رجعه لقادر والله يخلق ما يشاء.. ومن هنا فإن هناك دعوات تهز أرجاء الكون بأن يعود البشر إلى الله ، هناك أديان نسيت وكتب سماوية مُزقت وأنبياء أهينوا وعدالة أهدرت وحقوق ضاعت وشعوب جاعت ودماء سالت وأوطان استبيحت ولهذا حقت على الأرض اللعنة .. فى منتصف السبعينيات كنت فى زيارة للهند وطلبت من المسئولين أن أزور بيت شاعر الهند العظيم روبندرونات طاغور «ومعناه ضوء الشمس» وفى مكتبة طاغور فى مدينة كلكتا .. حصلت على نسخة من مناظرة بين طاغور وأينشتاين فى ألمانيا فى عام 1930وكلاهما كان قد حصل على جائزة نوبل؛ طاغور فى الأدب وأينشتاين فى الفيزياء .. يومها دار الحوار حول مستقبل البشرية بين الروحانيات وفى مقدمتها الأديان والماديات ومسيرة العلم، كان أينشتاين مقتنعا بأن العلم هو المستقبل وكان طاغور مسلما بأن الغرب سوف يخسر كثيراً إذا تخلى عن روحانيات الشرق ودارت حوارات حول الأديان والحقيقة والعلم.. كان طبيعيا أن يختلف القطبان ما بين روح الشاعر وحقائق العالم وكان الشيء الغريب أن تدور الحرب العالمية الثانية بعد سنوات قليلة وتكون المانيا وأوروبا أكبر ضحاياها ثم تنتهى بكارثة السلاح النووى على هيروشيما وناجازاكى فى اليابان وهو آخر ما توصل إليه العلم فى ذلك الوقت .. وهنا صدقت نبوءة الشاعر وضلت حقيقة العالم وقتل فى الحرب العالمية الثانية أكثر من 60 مليون إنسان تحت راية العلم .. هذه قصة من التاريخ حين أصبح العالم بلا قلب وتحول إلى غابة كبرى أكل البشر فيها بعضهم بعضا.. واليوم تعيش البشرية محنة كبرى ليس فقط بسبب السلاح النووى ووسائل القتل والدمار الحديثة ولكن بسبب فيروس ضئيل لا تراه العين، جعل ملايين البشر مساجين فى بيوتهم ينتظرون الموت من هذا الزائر القاتل.. أعود من حيث بدأت، لأننى أصبحت على يقين أن الإنسان عائد إلى ربه وأن كورونا كان رسالة إلهية لكى تنفض البشرية عن نفسها ثياب الظلم والضلال والقهر والتسلط والطغيان «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ». إن الإنسان مع هذه الحقيقة الكونية التى هبطت على الأرض فى صورة كائن لا يرى ويستطيع أن يخترق جسد الإنسان دون أن يراه أحد أمام رسالة سماوية للبشر جميع البشر بأن الله قادر على كل شيء «وَلاَ تَمْشِ فِى الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً» سوف يختلف العلماء ورجال الدين وسوف يرى العلماء أن الإنسان هو العلم والحقيقة وسوف يرى العقلاء أنها الخالق سبحانه وتعالى «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» هناك عودة إلى الله بعد أن يرحل كورونا وعلى العالم أن يخرج من ضلاله وأن يعود أكثر إيماناً وعدلاً وهداية.. لافرق بين الأديان اليوم، لأن الجميع يتجه طالباً الرحمة من الخالق سبحانه وتعالى.. «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ». سوف يدور سجال طويل بين من يرون أن كورونا كان مؤامرة بشرية هدفها التخلص من نصف سكان الأرض وإخضاع البشرية كلها لهذا الشبح القاتل.. وأن يشعر الإنسان بأنه كائن ضعيف أمام جحافل العلم التى تجبرت وتكبرت وأصبحت قادرة على أن تصنع فى الحياة كل شيء حتى لو صنعت إنسانا جديداً.. إنه جبروت الإنسان الذى نصب نفسه إلها ونبياً وصاغ الحياة كما أرادها ظلماً وموتاً وطغياناً وضلالاً.. هذا الإنسان هو نفسه القابع الآن فى بيته يحمل جسماً مريضاً واهياً وكل الناس تهرب منه وهو فى النهاية يتجه إلى السماء طالباً الرحمة ولا يعرف كيف أصيب وما هى نهاية هذا الجسد العليل. إن العيون جميعها تتجه إلى السماء، لأن مئات الآلاف فى كل دول العالم يطلبون الرحمة والشفاء من الخالق سبحانه وتعالى، كل الناس فى كل بقاع الأرض فى وقت واحد عيونهم للسماء، هل بعد ذلك كله مازال يكابر المكابرون؟ هل هى جريمة علم أم عقاب من الله؟! سوف يبقى هذا السؤال زمنا طويلا وكل واحد سوف يجيب على طريقته «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد». كان الخلاف كبيراً بين طاغور الشاعر وأينشتاين العالم منذ عشرات السنين وبقيت القضية مطروحة حتى الآن .. ومازالت الآراء تدور وأن كانت هناك عودة للأديان بدأت تأخذ طريقها فى سلوكيات الناس ومواقفهم وإن بقيت آراء أخرى ترى إن العلم لابد أن يكون الملجأ والملاذ .. وما بين إرادة الله وإرادة البشر يقف الإنسان حائراً أمام هذه المحنة التى وضعت البشرية فى هذا الموقف الذى سيبقى مجالاً للشك واليقين والاتفاق والاختلاف، أجيالاً كثيرة، جيلا بعد جيل أمام تساؤلات كثيرة.. الملايين من البشر الآن يجلسون فى بيوتهم حائرين ما بين الهداية والضلال، هل ما نراه علم ضل أم رسالة إلهية من الخالق سبحانه وتعالى للبشر، لقد خلقت هذا الكون من أجل إنسان أكثر ترفعاً وأخلاقاً ونبلاً ولم أخلق هذا العبث البشرى الذى جعل من الحياة غابة واسعة تأكلون فيها بعضكم بعضاً.. «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ».. ويبقى السؤال: ما تشهده البشرية الآن خطيئة علم جائر وجبروت إنسان ضل أم رسالة رب قادر رحيم؟. ويبقى الشعر الليلةَ أَجلسُ يا قلبِى خلفَ الأبوابْ أتأمَّلُ وجهِى كالأغرابْ يتلوَّن وَجهى ِلا أدْري هلْ ألمحُ وجْهى أم هذَا.. وجهٌ كذابْ؟ مِدفأتِى تنكرُ ماضينَا والدفُّء سرابْ تيار النورِ يحاوِرُني يهرب منْ عينى أحيانًا ويعودُ يدَغدغُ أعصَابي والخوفُ عذابْ أشعُرُ ببرودةِ أيَّامي مِرآتِى تعكِس ألوانًا لونٌ يتَعثرُ فى ألوانْ والليلُ طويلٌ والأحزانْ وقفتْ تتثاءَبُ فِى مَللٍ وتدُورُ وتضْحكُ فِى وجْهِي وتُقهقهُ تعلُو ضحْكتُها بينَ الجُدرانْ الصَّمتُ العَاصِفُ يحمِلُنى خلفَ الأبوابْ فأرَى الأيامَ بلا مَعنَى وأرَى الأشْياءَ.. بلاَ أسْبابْ خوفٌ وضياعٌ فِى الطُّرقاتْ مَا أسْوأَ أنْ تبقَى حيًا.. والأرضُ بقايا أمواتْ الليلُ يحاصِرُ أيامِى.. ويدُورُ.. ويعبثُ فِى الحُجُراتْ فالليلةَ مازلتُ وحِيدًا أتَسكَّع فِى صَمتِى حينًا تَحملُنِى الذكرَى للنسيَانْ أنتَشِلُ الحَاضِرَ فِى مللٍ أتذكرُ وجْهَ الأرضِ.. ولونَ النَّاسِ همومَ الوحدةِ.. والسَّجَّانْ سأمُوتُ وحِيدًا قَالتْ عرَّافةُ قريتنَا: ستُموتُ وحِيدًا قد أُشعلُ يومًا مِدْفأتي فتثورُ النارُ.. وتحرِقنِي قد أفتحُ شبَّاكِى خوفًا فيجيءُ ظلامٌ يُغْرقنِي قد أفتحُ بَابِى مهمُومًا كيْ يدخل لصُّ يخنْقنِي أو يدْخل حارسُ قريتِنا يحمِلُ أحكَامًا وقضَايا يُخطئ فى فهم الأحكامْ يُطلِقُ فِى صَدْرِى النيرانْ ويعُودُ يلملمُ أشلاَئى, ويَظلُّ يَصيحُ على قبرِي: أخطَأتُ وربَّى فِى الُعنوانْ الليلةَ أجلسُ يا قلبْى.. والضَّوء شَحيحْ وسَتائُر بيتِى أوراقٌ مزَّقها الرَّيحْ الشاشةُ ضوءُ وظِلالٌ و الوجهُ قبيحْ الخوفُ يكبلُ أجْفانِى فيضيعُ النومْ والبردُ يزلزلُ أعماقِى مثلَ البُركانْ أفتحُ شُباكى فِى صمتٍ يتَسللُ خوْفِى يُغلِقُه فأرَى الأشباحَ بكلَّ مكَانْ أتناثرُ وَحْدِى فى الأركانْ الليلةَ عدْنَا أغرابًا والعُمْر شتاءْ فالشَّمسُ توارتْ فى سأمٍ ٍ والبدرُ يجيءُ بغيرِ ضِياءْ.. أعرفُ عينيك وإنْ صرْنا بعضَ الأشلاءْ طالتْ أيامِى أم قَصرتْ فالأمرُ سواءْ قدْ جئتُ وحيدًا للدُّنيا وسأرحَلُ مثلَ الغُرباءْ قدْ أخْطئُ فهمَ الأشْياءْ لكنى أعرفُ عينيكِ فى الحُزن سأعرفُ عينيكِ فى الخَوفِ سأعرفُ عينيكِ فى الموتِ سأعرفُ عينيكِ عيناكِ تدورُ فأرصدُها بينَ الأطيافْ أحملُ أيامَكِ فى صَدْرِي بين الأنقاضِ.. وحينَ أخافْ أنثرُها سطراً.. فسُطورًا أرسُمُها زمنًا.. أزمانًا قدْ يقسُو الموجُ فيُلقينِى فوقَ المجدَافْ قد يغدُو العُمرُ بلا ضوءٍ ويصيرُ البحرُ بلا أصدافْ لكنى أحملُ عينيكِ قالتْ عرافةُ قريتنَا أبحرْ ما شئتَ بعينَيها لَا تخشَ الموتْ تعويذة عمْرِى عَينَاكِ يتسللُ عطرُك خَلفَ البابْ أشعرُ بيديكِ على صدْري ألمحٌ عينيكِ على وجْهِي أنفاسُك تحضنُ أنفاسِى والليل ظلامْ الدفء يُحَاصِرُ مدفأتى وتدُورُ النارْ أغلِقُ شبَّاكى فى صمتٍ.. وأعود أنامْ * نقلًا عن صحيفة الأهرام